وجعلهم ذوي النعمة المفتوحة النون للإشارة إلى قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة أي الانطلاق في العيش بلا ضيق والاستظلال بالبيوت والجنات والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) وتعريف ( النعمة ) للعهد .
والتمهيل : الإمهال الشديد والإمهال : التأجيل وتأخير العقوبة وهو مترتب في المعنى على قوله ( وذرني والمكذبين ) أي وانتظر أن ننتصر لك كقوله تعالى ( ولا تستعجل لهم ) .
و ( قليلا ) وصف لمصدر محذوف أي تمهيلا قليلا . وانتصب على المفعول المطلق .
( إن لدينا أنكالا وجحيما [ 12 ] وطعاما ذا غصة وعذابا أليما [ 13 ] يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 14 ] ) وهذا تعليل لجملة ( وذرني والمكذبين ) أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردك عليهم وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها وهم الذين بدلوا نعمة الله كفرا فأعد الله ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضدا لأصول النعمة التي خولوها فبطروا بها وقابلوا المنعم بالكفران فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود . والجحيم : هو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد . والطعام : ذو الغصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد . والأنكال : جمع نكل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف وهو القيد الثقيل .
والغصة بضم الغين : اسم لأثر الغص في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعبرة .
وإضافة الطعام إلى الغصة إضافة مجازية وهي من الإضافة لأدنى ملابسة فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبشاعة أو يبوسة .
والعذاب الأليم : مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر فإن الألم ضد اللذة . وقد عرف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم .
وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى النعمة ( بالفتح ) .
وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها و ( لدى ) يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة . والتقدير : لدى خزائننا أي خزائن العذاب ويجوز أن يكون مجازا في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله .
ويتعلق ( يوم ترجف ) بالاستقرار الذي يتضمنه خبر ( إن ) في قوله ( إن لدينا أنكالا ) .
والرجف : الزلزلة والاضطراب والمراد : الرجف المتكرر المستمر وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها .
والكثيب : الرمل المجتمع كالربوة أي يصير حجارة الجبال دقاقا .
ومهيل : اسم مفعول من هال الشيء هيلا إذا نثره وصبه . وأصله مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو ولأنها زائدة ويدل عليها الضمة .
وجيء بفعل ( كانت ) في قوله ( وكانت الجبال كثيبا ) للإشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي . ووجه مخالفته لأسلوب ( ترجف ) أن صيرورة الجبال كثبا أمر عجيب غير معتاد فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف إلا أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه .
A E ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا [ 15 ] فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 16 ] ) نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبي A .
والمناسبة لذلك التخلص إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا إذ قال له ( وذرني والمكذبين ) إلى قوله ( وعذابا أليما ) .
فالكلام استئناف ابتدائي ولا يعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله .
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين : مذهب الجمهور ومذهب السكاكي .
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين