وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله A ففي سورة العلق ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) . قيل هو أبو جهل تهدد رسول الله A لئن صلى في المسجد الحرام ليفعلن ويفعلن . وفيها ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) . قيل هو الأخنس بن شريق " تنكر لرسول الله A بعد أن كان حليفه " وفي سورة القلم ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) إلى قوله ( فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ) وقوله ( ولا تطع كل حلاف مهين ) إلى قوله ( قال أساطير الأولين ) ردا لمقالاتهم . وفي سورة المدثر إن كانت نزلت قبل سورة المزمل ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) إلى قوله ( إن هذا إلا قول البشر ) قيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة فلذلك أمر الله رسوله A بالصبر على ما يقولون .
والهجر الجميل : هو الحسن في نوعه فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه وقد يقال : كريم وذميم وخالص وكدر ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تتعلق بها كان نوعه خالصا وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدرا قبيحا وقد أشار إلى هذا قوله تعالى ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) . وتقدم عند قوله تعالى ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) في سورة النمل ومن هذا المعنى قوله ( فصبر جميل ) في سورة يوسف وقوله ( فاصبر صبرا جميلا ) في سورة المعارج .
فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور أو كراهية أعماله كان معرضا لأن يتعلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك . فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو انتقاما .
وهذا الهجر : هو إمساك النبي A عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى ( واصبر على ما يقولون ) .
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي A .
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعا خلقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرض نفسه بالصبر على أذاهم وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل .
( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا [ 11 ] ) القول فيه كالقول في ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) في سورة القلم أي دعني وإياهم أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم .
وانتصب ( المكذبين ) على المفعول معه والواو واو المعية .
والمكذبون هم من عناهم بضمير ( يقولون ) و ( اهجرهم ) وهم المكذبون للنبي A من أهل مكة فهو إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد .
ووصفهم ب ( أولي النعمة ) توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم وتهديدا لهم بأن الذي قال ( ذرني والمكذبين ) سيزيل عنهم ذلك التنعم .
A E وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم لأنهم كانوا يعدون سعة العيش ووفرة المال كمالا وكانوا يعيرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون ) الآيات وقال تعالى ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ) .
والنعمة : هنا بفتح بفتح النون باتفاق القراء . وهي اسم للترفه وجمعها أنعم بفتح الهمزة وضم العين .
وأما النعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية وأمن ورزق ونحو ذلك من الغائب . وجمعها : نعم بكسر النون وفتح العين وتجمع جمع سلامة على نعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب . وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كسرة إتباع .
والنعمة بضم النون اسم للمسرة فيجوز أن تجمع على نعم على أنه اسم جمع ويجوز أن تجمع على نعم بضم ففتح مثل : غرفة وغرف وهو مطرد في الوزن