والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمتعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين ولذلك قيل ( وتبتل إليه ) أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي A من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله . وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطيب وتزوج النساء والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه وقد قال " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب " .
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة .
وفي حديث سعد في الصحيح " رد رسول الله على عثمان ابن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا " يعني رد عليه استشارته في الإعراض عن النساء .
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك وهو معنى الحنيفية ولذلك عقب قوله ( وتبتل إليه تبتيلا ) بقوله ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو ) .
وخلاصة المعنى : أن النبي A مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق وإذ قد كان النبي A من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة . فالأمر في قوله ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه ) مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم " وقد نزلت قبل المزمل " ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ) على أن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبي A إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في السور الأول منه مقتصرا على سن التكاليف الخاصة بالرسول A .
ووصف الله بأنه ( رب المشرق والمغرب ) لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكره في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده ؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب فيكون لاستيعاب جهات الأرض أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب .
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب أي مبدأ ذينك الوقتين ومنتهاهما كما يقال : سبحوا الله كل مشرق شمس وكما يقال : صلاة المغرب .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع ( رب ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفا جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديثا عنه . ثم أريد الإخبار عنه بخبر جامع لصفاته وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ . وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض ( رب ) على البدل من ( ربك ) .
وعقب وصف الله ب ( رب المشرق والمغرب ) بالإخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلا هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله ( لا إله إلا هو ) تعريضا بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقا إلى النبي A . ولذلك فرع عليه قوله ( فاتخذه وكيلا ) وإذا كان الأمر باتخاذ وكيلا مسببا عن كونه لا إله إلا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا .
A E والوكيل : الذي يوكل إليه الأمور أي يفوض إلى تصرفه ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه فإن النبي A لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك وقد روي أن ذلك سبب تزمله من موجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلا عليه وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله ( واصبر على ما يقولون ) .
( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا [ 10 ] ) عطف على قوله ( فاتخذه وكيلا ) والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله .
وضمير ( يقولون ) عائد إلى المشركين ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة ومن ذلك عند قوله تعالى ( وأن لو استقاموا على الطريقة ) الآيات من سورة ( قل أوحي إلي ) ولأنه سيأتي عقبه قوله ( وذرني والمكذبين ) فيبين المراد من الضمير