فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ) وذلك دائر : بين أن يكون تعليلا لاختيار الليل لفرض القيام عليه فيه فيفيد تأكيد للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غناءه فيتحصل من المعنى : قم الليل لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك . وشغل النبي A في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل وبين أن يكون تلطفا واعتذارا عن تكليفه بقيام الليل وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإيقاع ما عسى أن يكلفه قيام الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه .
ويجوز أن يكون تعليلا لما تضمنه ( أو انقص منه قليلا ) أي إن نقصت من نصف الليل شيئا لا يفتك ثواب علمه فإن لك في النهار متسعا للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) .
وقد ثبت أن النبي A كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) . وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي A بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ . ويظهر أن يكون كل هذا مقصودا لأنه مما تسمح به دلالة كلمة ( سبحا طويلا ) وهي من بليغ الإيجاز .
والسبح : أصله العوم أي السلوك بالجسم في ماء كثير وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياء السير في الأرض .
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل السابحات في قوله في مدح فرسه : .
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار في الكديد المركل فعبر عن الجاريات بالسابحات .
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ أي لينام في النهار وقال ابن وهب عن ابن زيد قال : فراغا طويلا لحوائجك فافرغ لدينك في الليل .
والطويل : وصف من الطول وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقادير أكثر من أمثاله . فالطول من صفات الذوات وشاع وصف الزمان به يقال : ليل طويل وفي الحديث " الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه " .
أما وصف السبح ب ( طويل ) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه . وبعد هذا ففي قوله ( طويلا ) ترشيح لاستعارة السبح للعمل في النهار .
( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا [ 8 ] رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 9 ] ) عطف على ( قم الليل ) وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه أي ذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله ( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ) .
وإقحام كلمة ( اسم ) لأن المأمور به ذكر اللسان وهو الجامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس ألا ترى إلى قوله تعالى ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ) .
A E والتبتل : شدة البتل وهو مصدر تبتل القاصر الذي هو مطاوع بتله ف ( تبتل ) وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتى كأنه فعله غيره به فطاوعه والتبتل : الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب ( إلى ) الدالة على الانتهاء قال امرؤ القيس : .
" منارة ممسى راهب متبتل والتبتيل : مصدر بتل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التقطيع .
وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإشارة إلى حصول التبتل أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطع . ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله قطع نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين ( تبتل ) و ( تبتيلا ) مشير إلى إراضة النفس عن ذلك التبتل . وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله