وجعل ابن عطية ( الليل ) اسم جنس يصدق على جميع الليالي وأن المعنى : إلا قليلا من الليالي وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزيئاتها لا باعتبار الأجزاء ثم قال ( نصفه ) إلى آخره .
وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقت النوم عادة فأمر الرسول A بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإقبال على مناجاة الله : ولأن الليل وقت سكون الأصوات وإشغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعدادا لتلقي الفيض الرباني .
( ورتل القرآن ترتيلا [ 4 ] ) يجوز أن يكون متعلقا بقيام الليل أي رتل قراءتك في القيام .
ويجوز أن يكون أمرا مستقلا بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك . وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاث سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السور مكي وفي أن هذه السورة من أوائل السور وهذا مما أشعر به قوله ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) أي سنوحي إليك قرآنا .
فأمر النبي A أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين .
والترتيل : جعل الشيء مرتلا أي مفرقا وأصله من قولهم : ثغر مرتل وهو المفلج الأسنان أي المفرق بين أسنانه تفريقا قليلا بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة . وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع . ووصفت عائشة الترتيل فقالت " لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها لا كسردكم هذا " .
وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلق بحوافظهم ويتدبر قارئه وسامعه معانيه كي لا يسبق لفظ اللسان عمل الفهم . قال قائل لعبد الله بن مسعود : قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله " هذا كهذ الشعر " لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر ميزان بحرها وتتعاقب قوافيها على الأسماع . والهذ : إسراع القطع .
وأكد هذا المر بالمفعول المطلق لإفادة تحقيق صفة الترتيل . وقرأ الجمهور ( أو انقص ) بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل حركة الواو بضمة لمناسبة ضمة قاف ( انقص ) بعدها . وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين .
ووقع في قوله ( أو زد عليه ورتل القرآن ) إذا " شبعت " فتحة نون القرآن محسن الاتزان بأن يكون مصراعا من بحر الكامل أحد دخله الإضمار مرتين .
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ 5 ] ) تعليل للأمر بقيام الليل وقع اعتراضا بين جملة ( قم الليل ) وجملة ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا ) وهو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئة نفس النبي A ليحمل شدة الوحي وفي هذا إيماء إلى أن الله يسر عليه ذلك كما قال تعالى ( إن علينا جمعه وقرآنه ) فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة ( قم الليل إلا قليلا ) فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي A بنزول القرآن فلما قال له ( ورتل القرآن ترتيلا ) أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن .
والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه : إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملك .
وحقيقة الإلقاء : رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه ويقال : شيء لقى أي مطروح استعير الإلقاء للإبلاغ دفعة على غير ترقب .
A E والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيرا على الرسول الأمي تنوء الطاقة عن تلقيه .
وأشعر قوله ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول A لقوله قبله ( إنا سنلقي عليك ) وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه . قال ابن عباس : كان رسول الله A " إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له جلده " " أي تغير بمثل القشعريرة " وقالت عائشة " رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا "