وفعل ( قم ) منزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة فهذا القيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله ( قم فأنذر ) فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك .
والليل : زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر . وأنتصب ( الليل ) على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإنسان .
وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاة المغرب والعشاء ورواتبهما .
وأمر الرسول بقيام الليل أمر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزول هذه السورة وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول A كما سيأتي في قوله تعالى : ( إن ربك يعلم إنك تقوم ) إلى قوله : ( وطائفة من الذين معك ) الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول A في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يخرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري ( فغطني حتى بلغ مني الجهد ) ثم قال ( اقرأ باسم ربك ) الحديث ويدل هذه الحكمة قوله تعالى عقبه ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) .
وقد كان النبي A يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحى إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة .
وقد استمر وجوب قيام الليل على رسوله A بعد فرض الصلوات الخمس تعظيما لشأنه بكثرة الإقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) أي زيادة قرب لك . وقد تقدم في سورة الإسراء . فكان هذا حكما خاصا بالنبي A وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي A ولم يكن واجبا على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس . وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي A وهو يقرهم على ذلك فكانوا يرونه لزاما عليهم وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) وسيأتي ذلك عند قوله تعالى ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) الآية قالت عائشة " إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه " على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين . وتقرر أنه مندرب مندوب فيه . واختلف في استمرار وجوبه على النبي A ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه .
وقوله ( إلا قليلا ) استثناء من ( الليل ) أي إلا قليلا منه فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها .
و ( نصفه ) بدل من ( قليلا ) بدلا مطابقا وهو تبيين لإجمال ( قليلا ) فجعل القيام هنا النصف أو أقل منه بقليل .
وفائدة هذا الإجمال الإيماء إلى أن الأولى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل رحمة ورخصة للنبي A ويدل ذلك تعقيبه بقوله ( أو انقص منه قليلا ) أي انقص من النصف قليلا فيكون زمن قيام الليل أقل من نصفه وهو حينئذ قليل فهو رخصة من الرخصة .
A E وقال ( أو زد عليه ) وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقد ( وزد عليه ) بمثل ما قيد به ( أو انقص منه ) لتكون الزيادة على النصف متسعة وقد ورد في الحديث أن النبي A أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك " إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقال : " أفلا أكون عبدا شكورا " .
والتخيير المستفاد من حرف ( أو ) منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن ذلك ارتباطا بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم .
وبعد فذلك توسيع على النبي A لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب