افتتاح الكلام بالنداء إذ كان المخاطب واحدا ولم يكن بعيدا يدل على الاعتناء بما سيلقي إلى المخاطب من كلام .
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو ( يا أيها النبي ) أو تلطف وتقرب نحو : يا بني ويا أبت أو قصد تهكم نحو ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) فإذا نودي المنادي بوصف هيئته من لبسه أو لبسه أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته ومنه قول النبي A لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه " قم أبا تراب " وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق " قم يا نومان " وقوله لعبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملا هرة صغيرة في كمه ( يا أبا هريرة ) .
فنداء النبي ب ( يا أيها المزمل ) ناء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى ( يا أيها المدثر ) .
والمزمل : اسم فاعل من تزمل إذا تلفف بثوبه كالمقرور أو مريد النوم وهو مثل لمدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من معنى التلفف والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ . وأصل التزمل مشتق من الزمل بفتح فسكون وهو الإخفاء ولا يعرف ل " تزمل " فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس فمنه التزمل ومنه التعمم والتأزر والتقمص وربما صاغوا له صيغة الافتعال مثل : ارتدى وائتزر .
وأصل المزمل : المتزمل أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا لتقارهما .
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين : إنه التزمل الذي جرى في قول النبي A " زملوني زملوني " حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه ( اقرأ باسم ربك ) الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من صحيح البخاري وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذ وعليه فهو حقيقة .
وقيل هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال " لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه " أي صفوه وصفا تتفق عليه الناس " فقالوا : كاهن وقالوا : مجنون وقالوا : ساحر فصدر المشركون على وصفه ب " ساحر " فبلغ ذلك النبي A فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر فأتاه جبريل فقال ( يا أيها المزمل ) ( يا أيها المدثر ) .
وسيأتي في سورة المدثر : أن سبب نزولها رؤيته الملك جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال " دثروني " فيتعين أن سبب ندائه ب ( يا أيها المزمل ) كان عند قوله " زملوني " فذلك عندما اغتم من وصف المشركين إيه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب ( يا أيها المدثر ) في سورة المدثر .
وقيل : هو تزمل للاستعداد للصلاة فنودي ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ) وهذا مروي عن قتادة . وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة .
ومحملها على أن التزمل حقيقة وقال عكرمة : معناه زملت هذا الأمر فقم به يريد أمر النبؤة فيكون قوله ( الليل إلا قليلا ) مع قوله ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) تحريضا على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلا قليلا من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه . ومحمل التزمل عنده على المجاز .
A E فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالا على أن الله تعالى بعد أن أبتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة ( أقرأ باسم ربك ) ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا : إنه مجنون .
أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل ثم فتر الوحي فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه ( يا أيها المدثر ) .
فنداء النبي A بوصف ( المزمل ) باعتبار حالته وقت ندائه ليس المزمل معدودا من أسماء النبي A قال السهيلي : ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عده من أسمائه