والروايات عن عائشة مضطربة بعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان . وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة وبعض الروايات يقولون فيها : إنها كانت تفرش لرسول الله A حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ) فكتب عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم فأنزل ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) إلى ( فتاب عليكم ) فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة . وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي A لم يبن بعائشة إلا في المدينة ولأن قولها " فخرج مغضبا " يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده ويؤيده أخبار ثبت قيام الليل في مسجده . ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه .
ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال : قال النخعي في قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) " كان النبي A متزملا بقطيفة عائشة وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي A وهو يصلي " اه وإنما بنى النبي A بعائشة في المدينة فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محلة كما سنبينه عند قوله تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) وأن قوله ( إن ربك يعلم أنك تقوم ) إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وإنه ناسخ لوجوب قيام الليل عن النبي A وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب .
وحكى القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : إن آيتين وهما ( وأصبر على ما يقولون ) إلى قوله ( ومهلهم قليلا ) نزلتا بالمدينة .
واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور والأصح التي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة : أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق فقيل : سورة ن والقلم وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة . وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور وعلى القول بأن المدثر هي الثانية . يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري وسيأتي عند قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) .
والأصح أن سبب نزول ( يا أيها المزمل ) ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) الآية .
وعدت آيها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عد من عداهم عشرون .
أغراضها الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله A بندائه بوصفه بصفة تزمله .
واشتملت على الأمر بقيام النبي A غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل .
وعلى تثبيت النبي A بتحمل إبلاغ الوحي .
A E والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاء الصدقات .
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه .
وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين .
وتكفل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله .
والوعيد لهم بعذاب الآخرة .
ووعظهم مما حل بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم .
وذكر يوم القيامة ووصف أهواله .
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة .
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات .
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبره .
وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل .
وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك تدبرها .
( يا أيها المزمل [ 1 ] قم الليل إلا قليلا [ 2 ] نصفه أو انقص منه قليلا [ 3 ] أو زد عليه )