وفهم من قوله ( أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول A بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث .
ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلا لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييدا لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب .
واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بالمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثنى منه بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص فليس قوله تعالى ( إلا من ارتضى من رسول ) بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله وقد بين النوع المطلع عليه بقوله ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) .
وقرأ رويس عن يعقوب ( ليعلم ) بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول على أن ( أن قد أبلغوا ) نائب عن الفاعل والفاعل المحذوف حذف للعلم به أي ليعلم الله أن قد أبلغوا .
( وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [ 28 ] ) الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك فقوله ( وأحاط بما لديهم ) تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمه بتبليغهم ما أرسل إليهم وقوله ( وأحصى كل شيء عددا ) تعميم أشمل بعد تعميم ما .
وعبر عن العلم بالإحصاء على طريق الاستعارة تشبيها لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد لأن معرفة الأعداد أقوى وقوله ( عددا ) ترشيح للاستعارة .
والعدد : بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عد فالمعنى هنا : وأحصى كل شيء معدودا وهو نصب على الحال بخلاف قوله تعالى ( وعدهم عدا ) . وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإدغام لأن الأصل في الإدغام للأفعال .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة المزمل .
ليس لهذه السورة إلا أسم ( سورة المزمل ) عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها فيجوز أن يراد حكاية اللفظ ويجوز أن يراد به النبي A موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) .
قال ابن عطية : هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) إلى نهاية السورة فذلك مدني . وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي .
وقال في الإتقان : إن استثناء قوله ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة " نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس " اه .
يعني وذلك كله بمكة أي فتكون السورة كلها مكية فتعين أن قوله ( قم الليل ) أمر به في مكة .
A E والروايات تظاهرت على أن قوله ( إن ربك يعلم أنك تقوم ) إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها فقالت عائشة " نزل بعد صدر السورة بسنة " . ومثله روى الطبري عن ابن عباس وقال الجمهور : نزل صدر السورة بمكة ونزل ( إن ربك يعلم ) إلى آخرها بالمدينة أي بعد نزول أولها بسنين .
فالظاهر أن الأصح أن نزول ( إن ربك يعلم ) إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة .
وروى الطبري عن سعيد بن جبير " قال لما أنزل الله على نبيه A يا أيها المزمل " مكث النبي A على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين ( إن ربك يعلم أنك تقوم ) إلى ( وأقيموا الصلاة ) اه أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبي A بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير