والإتيان بالموصول والصلة في قوله ( إلا من ارتضى من رسول ) لقصد ما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى تعليل الخبر أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى الناس فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو يفعلوه وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة أو أمور الدنيا وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى ( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) .
والمراد بهذا الإطلاع المحقق المفيد علما كعلم المشاهدة . فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة ففي الحديث " الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة أو بالإلهام " قال النبي A " قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم " رواه مسلم . قال مسلم : قال ابن وهب : تفسير محدثون : ملهمون .
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة : أنها تسر ولا تغر يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها .
و ( من رسول ) بيان لإبهام ( من ) الموصولة فدل على ما صدق ( من ) جماعة من الرسل أي إلا الرسل الذين ارتضاهم أي اصطفاهم .
وشمل ( رسول ) كل مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل لإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام . وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم .
وهنا أربعة ضمائر غيبة : الأول ضمير ( فإنه ) وهو عائد إلى الله تعالى .
والثاني الضمير المستتر في ( يسلك ) وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير ( فإنه ) .
والثالث والرابع ضميرا ( من بين يديه ومن خلفه ) وهما عائدان إلى ( رسول ) أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصدا من بين يدي الرسول A ومن خلفه رصدا أي ملائكة يحفظون الرسول A من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبة .
والسلك حقيقته : الإدخال كما في قوله تعالى ( كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ) في سورة الحجر .
وأطلق السلك على الإيصال المباشر تشبيها له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفا في قوله ( ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا ) أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يبلغ أليه ما أوحي إليه من الغيب كأنهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم . وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
والمراد ب ( من ين يديه ومن خلفه ) الكناية عن جميع الجهات ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف .
والرصد : اسم جمع كما تقدم آنفا في قوله ( يجد له شهابا رصدا ) . وانتصب ( رصدا ) على أنه مفعول به لفعل ( يسلك ) .
A E ويتعلق ( ليعلم ) بقوله ( يسلك ) أي يفعل الله ذلك ليبلغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم كما بعثه من دون تغيير فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعا ومسببا عن تبليغ الوحي كما أنزل الله جعل المسبب علة وأقيم مقام السبب إيجازا في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع وهذا كقول إياس بن قبيصة : .
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلم ذلك . وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها .
وجيء بضمير الإفراد في قوله ( من بين يديه ومن خلفه ) مراعاة للفظ ( رسول ) ثم جيء له بضمير الجمع في قوله ( أن قد أبلغوا ) مراعاة لمعنى رسول وهو لجنس أي الرسل على طريقة قوله الله تعالى السابق آنفا ( فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) .
والمراد : ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله أدوا الأمانة علما يترتب عليه جزاؤهم الجزيل