والغرض من الاعتراض بها التعجيل بتسلية رسول الله A على ما يلاقيه من قومه مما يماثل ما لاقاه نوح من قومه على نحو قوله تعالى ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) .
ويجوز أن تكون متصلة بجملة ( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) على الوجه الثاني المتقدم فيها من أن تكون من كلام الله تعالى الموجه إلى نوح بتقدير : وقلنا لا تزد الظالمين إلا ضلالا وتكون صيغة المضي في قوله ( أغرقوا ) مستعملة في تحقق الوعد لنوح بإغراقهم وكذلك قوله ( فأدخلوا نارا ) .
وقدم ( مما خطيئاتهم ) على عامله بإفادة القصر أي أغرقوا فأدخلوا نارا من أجل مجموع خطيئاتهم لا لمجرد استجابة دعوة نوح التي ستذكر عقب هذا ليعلم أن الله لا يقر عباده على الشرك بعد أن يرسل إليهم رسولا وإنما تأخر عذابهم إلى ما بعد دعوة نوح لإظهار كرامته عند ربه بين قومه ومسرة له وللمؤمنين معه وتعجيلا لما يجوز تأخيره .
و ( من ) تعليلية و ( ما ) مؤكدة لمعنى التعليل .
وجمع الخطيئات مراد بها الإشراك وتكذيب الرسول وأذاه وأذى المؤمنين معه والسخرية منه حين توعدهم بالطوفان وما ينطوي عليه ذلك كله من الجرائم والفواحش .
وقرأ الجمهور ( خطيئاتهم ) بصيغة جمع خطيئة بالهمزة . وقرأه أبو عمرو وحده ( خطاياهم ) جمع خطية بالياء المشددة مدغمة فيها الياء المنقلبة عن همزة للتخفيف .
وفي قوله ( أغرقوا فأدخلوا نارا ) محسن الطباق لأن بين النار والغرق المشعر بالماء تضادا .
وتفريع ( فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) تعريض بالمشركين من العرب الذين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الكوارث يعني في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث أي كما لم تنصر الأصنام عبدتها من قوم نوح كذلك لا تنصركم أصنامكم .
وضمير ( يجدوا ) عائد إلى ( الظالمين ) من قوله ( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) وكذلك ضمير ( لهم ) .
والمعنى : فلم يجدوا لأنفسهم أنصارا دون عذاب الله .
( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ 26 ] إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 27 ] ) عطف على ( قال نوح ربي إنهم عصوني ) أعقبه بالدعاء عليهم بالإهلاك والاستئصال بأن لا يبقي منهم أحدا أي لا تبق منهم أجدا على الأرض .
وأعيد فعل ( قال ) لوقوع الفصل بين أقوال نوح بجملة ( مما خطيئاتهم ) الخ أوبها وبجملة ( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) .
وقرنت بواو العطف لتكون مستقلة فلا تتبع جملة ( إنهم عصوني ) للإشارة إلى أن دعوة نوح حصلت بعد شكايته بقوله ( إنهم عصوني ) .
A E وديار : اسم مخصوص بالوقوع في النفي يعم كل إنسان وهو اسم من وزن فيعال مشتق من اسم الدار فعينه واو لأن عين دار مقدرة واوا فأصل ديار : ديوار فلما اجتمعت الواو والياء واتصلتا وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء ثم أدغمت بالياء الزائدة كما فعل بسيد وميت . ومعنى ديار : من يحل بدار القوم كناية عن إنسان .
ونظير ( ديار ) في العموم والوقوع في النفي أسماء كثيرة في كلام العرب أبلغها أبن السكيت في إصلاح المنطق إلى خمسة وعشرين وزاد كراع النمل سبعة فبلغت اثنين وثلاثين اسما وزاد ابن مالك في التسهيل ستة فصارت ثمانية وثلاثين .
ومن أشهرها : آحد وديار وعريب وكلها بمعنى الإنسان ولفظ ( بد ) بضم الموحدة وتشديد الدال المهملة وهو المفارقة .
وجملة ( إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ) تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحدا من الكافرين يريد أنه خشي أن يضلوا بعض المؤمنين وأن يلدوا أبناء ينشأون على كفرهم .
والأرض يجوز أن يراد بها جميع الكرة الدنيوية وأن يراد أرض معهودة للمتكلم والمخاطب كما في قوله تعالى ( قال اجعلني على خزائن الأرض ) يعني أرض مصر في سورة يوسف .
ويحتمل أن يكون البشر يومئذ منحصرين في قوم نوح ويجوز خلافه وعلى هذه الاحتمالات ينشأ احتمال أن يكون الطوفان قد غمر جميع الكرة الأرضية واحتمال أن يكون طوفانا قاصرا على ناحية كبيرة من عموم الأرض والله أعلم . وقد تقدم ذلك عند تفسير قوله تعالى ( فأنجيناه والذين معه في الفلك ) في سورة الأعراف