إضراب آخر انتقل به من مدارج إبطال معاذير مفروضة لهم أن يتمسكوا بها تعلة لإعراضهم عن قبول دعوة القرآن قطعا لما عسى أن ينتحلوه من المعاذير على طريقة الاستقراء ومنع الخلو .
وقد جاءت الإبطالات السالفة متعلقة بما يفرض لهم من المعاذير التي هي من قبيل مستندات من المشاهدات وانتقل الآن إلى إبطال من نوع آخر وهو إبطال حجة مفروضة يستندون فيها إلى علم شيء من المعلومات المغيبات عن الناس . وهي مما استأثر الله بعلمه وهو المعبر عنه بالغيب كما تقدم في قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ) في سورة البقرة . وقد استقر عند الناس كلهم أن أمور الغيب لا يعلمها إلا الله أو من اطلع من عباده على بعضها .
والكلام هنا على حذف مضاف أي أعندهم علم الغيب كما قال تعالى ( أعنده علم الغيب فهو يرى ) في سورة النجم .
فالمراد بقوله ( عندهم الغيب ) أنه حصل في علمهم ومكنتهم أي باطلاع جميعهم عليه أو بإبلاغ كبرائهم إليهم وتلقيهم ذلك منهم .
وتقديم ( عندهم ) على المبتدأ وهو معرفة لإفادة الاختصاص أي صار علم الغيب عندهم لا عند الله .
ومعنى يكتبون : يفرضون ويعينون كقوله ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) وقوله ( كتاب الله عليكم ) أي فهم يفرضون لأنفسهم أن السعادة في النفور من دعوة الإسلام ويفرضون ذلك على الدهماء من اتباعهم .
ومجيء جملة ( فهم يكتبون ) متفرعة عن جملة ( أم عندهم الغيب ) بناء على أن ما في الغيب مفروض كونه شاهدا على حكمهم لأنفسهم المشار إليه بقوله ( ما لكم كيف تحكمون ) كما علمته آنفا .
( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم [ 48 ] لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم [ 49 ] فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [ 50 ] ) A E تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول A وما تبعه من تكفل الله لرسوله A بعاقبة النصر وذلك أن شدته على نفس النبي A من شأنها أن تدخل عليه يأسا من حصول رغبته ونجاح سعيه ففرع عليه تثبيته وحثه على المصابرة واستمراره على الهدي . وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم فذكره بمثل يونس عليه السلام إذ استعجل عن أمر ربه فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيرا مرادا به التحذير .
والمراد بحكم الرب هنا أمره وهو ما حمله إياه من الإرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة . وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) إلى قوله ( ولربك فاصبر ) فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضا . ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله .
وصاحب الحوت : هو يونس بن متى وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى ( ووهبنا له إسحاق ) إلى قوله ( ويونس ) في سورة الأنعام .
والصاحب : الذي يصحب غيره أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار ( صاحب الحوت ) لقبا له على تلك الحالة معية قوية .
وقد كانت مؤاخذة يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نينوى كما تقدم في سورة الصافات .
و ( إذ ) ظرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربه فإنه ما نادى ربه إلا لإنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه .
والمكظوم : المحبوس المسدودة عليه يقال : كظم الباب أغلقه وكظم النهر إذا سده . والمعنى : نادى في حال حبسه في بطن الحوت .
وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس .
وقوله ( لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء ) الخ استئناف بياني ناشئ عن مضمون النهي من قوله ( ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى ) الخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه