وقال بعض المفسرين : كان أصحاب هذه الجنة بعد عيسى بقليل أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلا بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القليس وكان ذلك زمان عام الفيل . وعن عكرمة : كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقا للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمرها فكان يعيش منها اليتامى والأرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحا وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأرامل وقالوا : لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين . فبيتوا ذلك وأقسموا أيمانا على ذلك ولعلهم أقسموا ليلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعوا إليه . وهذا يقتضي أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ) قيل كان يقول لهم اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين وذكرهم انتقام الله من المجرمين أي فغلبوه ومضوا إلى ما عزموا عليه ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة .
A E فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودة قد أصابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيرا منها .
قيل : كانت هذه الجنة من أعناب .
والصرم : قطع الثمرة وجذاذها ومعنى ( مصبحين ) داخلين في الصباح أي في أوائل الفجر .
ومعنى لا يستثنون : أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئا للمساكين أي أقسموا ليصرمن جميع الثمر ولا يتركون منه شيئا . وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلا فإن الصرم لا ينافي إعطاء شيء من المجذوذ لمن يريدون . وأجمل ذلك اعتمادا على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها .
وقيل معناه : لا يستثنون لإيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى ( ولا تقولن لشيء إني فتعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) . ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو ( إلا ) فإذا اقتصر أحد على ( إن شاء الله ) دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناء لأنه على تقدير : إلا أن يشاء الله . على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظرا إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء .
وعلى هذا التفسير يكون قوله ( ولا يستثنون ) من قبيل الإدماج أي لمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا زعموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقا . والجملة في موضع الحال والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بخلهم على الفقراء والأيتام .
وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفارا فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة .
وقوله ( فطاف عليها طائف من ربك ) الطواف : المشي حول شيء من كل جوانبه يقال : طاف بالكعبة وأريد هنا تمثيل حالة الإصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان قال تعالى ( إذا مسهم طائف من الشيطان ) الآية .
وعدي ( طاف ) بحرف ( على ) لتضمينه معنى : تسلط أو نزل .
ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به فإسناد فعل ( طاف ) إلى ( طائف ) بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل : فطيف عليها وهم نائمون .
وعن الفراء : أن الطائف لا يكون إلا بالليل يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طيفا . قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل . وفي هذا نظر .
فقوله ( وهم نائمون ) تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول وهو تأكيد لمعنى طائف على تفسير الفراء وفائدته تصوير الحالة .
وتنوين طائف للتعظيم أي أمر عظيم وقد بينه بقوله ( فأصبحت كالصريم ) فهو طائف سوء قيل : أصابها عنق من نار فاحترقت