تعليل لجملة ( فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ) باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له ( إنك لمجنون ) وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنى عنه قوله ( فستبصر ويبصرون ) من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي A بأنه مجنون المردود عليهم بقوله تعالى ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) إذ هم الضالون عن سبيل رب النبي A لا محالة وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسة مساواة مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي A بحقيقة المفتون . ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون فتنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء .
وهذا الانتقال تضمن وعدا ووعيدا بإضافة السبيل إلى الله ومقابلة من ضل عنه بالمهتدين .
وعموم من ضل عن سبيله وعموم المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضا من التذييل .
وهو بعد هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله ( فلا تطع المكذبين ) .
( فلا تطع المكذبين [ 8 ] ودوا لو تدهن فيدهنون [ 9 ] ) تفريع على جملة ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ) إلى آخرها باعتبار ما تضمنته من أنه على هدى وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى وتصلب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لينا ولكن يستأهلون إغلاظا .
روي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودوا أن يمسك النبي A عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه ويصانع بعضهم بعضا فنهاه الله عن إجابتهم لما ودوا .
ومعنى ودوا : أحبوا .
وليس المراد أنهم ودوا ذلك في نفوسهم فأطلع الله عليه رسوله A لعدم مناسبته لقوله ( فلا تطع المكذبين ) .
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي A بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة .
فينتظم في هذا أن قوله ( فلا تطع المكذبين ) نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله ( فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ) إلى قوله ( المهتدين ) فلعلهم تحدثوا أو أوعزوا إلى من يخبر الرسول A أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه ( إنه لمجنون ) فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحا بينهم ويترك كل فريق فريقا وما عبده .
والطاعة : قبول ما يبتغى عمله ووقوع فعل تطع في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم فالطاعة مراد بها المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) أي لا تلن لهم .
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإيماء إلى وجه بناء الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فأن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته .
ومن هنا يتضح أن جملة ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف .
وفعل ( تدهن ) مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهنا إما لتليينه وإما لتلوينه ومن هذين المعنيين تفرعت معاني الإدهان كما أشار إليه الراغب أي ودوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك أي لو تواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها .
A E