وفعلا ( تبصر ويبصرون ) بمعنى البصر الحسي . وروي عن ابن عباس : إن معناه فستعلم ويعلمون فجعله مثل استعمال فعل الرؤيا في معنى الضن فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من " أبصر " لا يستعمل بمعنى الضن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافا لهشام كذا في التسهيل فالمعنى : سترى ويرون رأي العين أيكم المفتون فإذا كان بمعنى العلم فإن النبي A قد رأى ذلك فالسين في قوله ( فستبصر ) للتأكيد وأما المشركون فسيرون ذلك أي يعلمون آثار فتونهم وذلك فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح .
وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال .
وضمير ( يبصرون ) عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون : هو مجنون .
و ( أي ) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ويظهر أن مدلول ( أي ) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمييز واقعي أو جعلي . فهذا مدلول ( أي ) في جميع مواقعه . وله مواقع كثيرة في الكلام فقد يشرب ( أي ) معنى الموصول ومعنى الشرط ومعنى الاستفهام ومعنى التنويه بكامل ومعنى المعرف ب ( ال ) إذا وصل بندائه . وهو في جميع ذلك يفيد شيئا متميزا عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه فقوله تعالى ( بأيكم المفتون ) معناه : أي رجل أو أي فريق منكم المفتون ف ( أي ) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل ( تبصر ويبصرون ) أو متعلق به تعلق المجرور .
المفتون : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة فيجوز أن يراد بها الجنون فإن الجنون يعد في كلام العرب من قبيل الفتنة " يقولون للمجنون فتنته الجن ) ويجوز أن يراد مايصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلا بإيثار هذا اللفظ دون لفظ المجنون من الكلام الموجه أو التورية ليصح فرضه للجانبين .
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي A بدون تبصر يكن في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد ابن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي A بأقوال مختلفة .
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله والأصل : أيكم المفتون فهي كالباء في قوله ( وامسحوا برؤوسكم ) . ويجوز أن تكون الباء للظرفية . والمعنى : في أي الفريقين منكم يوجد المجنون أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضا بأبي جهل والوليد ابن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلا معروفا بين العقلاء مذكورا برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل ( المفتون ) في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله : .
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لاتفارقهم فالراحلون همو ويجوز أن يكون ( المفتون ) مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلد : والميسور لليسر والمعسور لضده وفي المثل " خذ من ميسوره ودع معسوره " .
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على ( المفتون ) وهو مبتدأ .
يضمن فعل ( تبصر ويبصرون ) معنى : توقن ويوقنون على طريق الكناية بفعل الإبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحس حاسة البصر ويكون الإتيان بالباء للإشارة إلى هذا التضمين . والمعنى : فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأيكم المفتون فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب ( يبصر ويبصرون ) .
( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [ 7 ] ) A E