ويجوز أن يكون ( ممنون ) مشتقا من قولهم : من الحبل أي أجرا غير مقطوع عنك وهو الثواب المتزايد كل يوم أو أجرا أبديا في الآخرة ولهذا كان لإيثار كلمة ( ممنون ) هنا من الإيجاز بجمع معنيين بخلاف قوله ( عطاء غير مجذوذ ) في سورة هود لأن ما هنا تكرمة للرسول A .
وبعد أن آنس نفس رسوله A بالوعد عاد إلى تسفيه قول الأعداء فحقق أنه متلبس بخلق عظيم وذلك ضد الجنون مؤكدا ذلك بثلاثة مؤكدات مثل ما في الجملة قبله .
والخلق : طباع النفس وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم تتبع بنعت وقد تقدم عند قوله تعالى ( إن هذا إلا خلق الأولين ) في سورة الشعراء .
والعظيم : الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
و ( على ) للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله ( أولئك على هدى من ربهم ) ومنه قوله تعالى ( إنك على الحق المبين ) ( إنك على صراط مستقيم ) ( إنك لعلى هدى مستقيم ) .
وفي حديث عائشة " أنها سئلت عن خلق رسول الله A فقالت : كان خلقه القرآن " أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها .
والخلق العظيم : هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي A فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن .
ولهذا قالت عائشة " كان خلقه القرآن ألست تقرأ ( قد أفلح المؤمنون ) الآيات العشر " . وعن علي الخلق العظيم : هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبي A من نحو قوله ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) وقوله ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وغير ذلك من آيات القرآن . وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله A " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم ولا شك أن الرسول A أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) وأمره أن يقول ( وأنا أول المسلمين ) .
فكما جعل الله رسوله A على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة .
وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله ( وإنك لعلى خلق عظيم ) فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه ومتمكن منه في دعوته الدينية .
واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين ومعرفة الحقائق وحلم النفس والعدل والصبر على المتاعب والاعتراف للمحسن والتواضع والزهد والعفة والعفو والجمود والحياء والشجاعة وحسن الصمت والتؤدة والوقار والرحمة وحسن المعاملة والمعاشرة .
والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه وطلاقة وجهه وثباته وحكمه وحركته وسكونه وطعامه وشرابه وتأديب أهله ومن لنظره وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس وحسن الثناء عليه والسمعة .
وأما مظاهرها في رسول الله A ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه .
( فستبصر و يبصرن [ 5 ] بأييكم المفتون [ 6 ] ) الفاء للتفريع على قوله ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) باعتبار ما اقتضاه قوله ( بنعمة ربك ) من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين ابتدأ بإبطال بهتانهم وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أهم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد أم هو باختلال العقل كما اختلقوا .
A E والمقصود هو ما في قوله ( ويبصرون ) ولكن أدمج فيه قوله ( فستبصر ) ليأتي بذر الجانبين إيقاع كلام منصف " أي داع إلى الإنصاف " على طريقة قوله ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم