وضمير ( يسطرون ) راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة والمقصود : المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول . فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين فكأنه قيل : والمسطور نضير قوله تعالى ( وكتاب مسطور في رق منشور ) .
ومن فسر ( القلم ) بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير ( يسطرون ) راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير .
وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول A واللامزين له بالجنون إنما هو ما أتاهم به من الكتاب .
والمقسم عليه نفي أن يكون النبي A مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام : هو مجنون وذلك ما شافهوا به النبي A وحكاه الله عنهم في آخر السورة ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ) . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله ( وما صاحبكم بمجنون ) . وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه .
والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه .
وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف ( إن ) ولام الابتداء إذ قالوا ( إنه لمجنون ) بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات .
وقوله ( بنعمة ربك ) جعله في الكشاف حالا من الضمير الذي في مجنون المنفي . والتقدير : انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك . والباء للملابسة أو السببية أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص . والذي أرى أن تكون جملة معترضة وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره : أن ذلك بنعمة ربك على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله " باسم الله " وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي : .
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا وذهب ابن الحاجب في أماليه أن ( بنعمة ربك ) متعلق ما يتضمنه حرف ( ما ) النافية من معنى الفعل وقدره : انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك . ولا يصح تعلقه بقوله ( مجنون ) إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله وليس ذلك بمستقيم . واستحسن هذا ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق أن النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك : يا لزيد " يريد في الاستغاثة " وتقدم نظيره في قوله ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) في سورة الطور .
ولما ثبت الله رسوله A فدفع بهتان أعدائه أعقبه بإكرامه بأجر عظيم على ما لقيه من المشركين من أذى بقوله ( وإن لك لأجرا غير ممنون ) بقرينة وقوعه عقب قوله ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) مؤكدا ذلك بحرف ( إن ) وبلام الابتداء وبتقديم المجرور وهو في قوله ( لك ) .
وهذا الأجر هو ثواب الله في الآخرة وعناية الله به ونصره في الدنيا .
A E و ( ممنون ) يجوز أن يكون مشتقا من من المعطي على المعطى إذا عد عليه عطاءه وذكر له أو افتخر عليه به فإن ذلك يسوء المعطى قال النابغة : .
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب أي ليس فيها أذى والمن من الأذى قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) .
وقد انتزع من هذه الآية عبد الله بن الزبير ( بكسر الموحدة ) أو غيره في قوله : .
" أيادي لم تمنن وإن هي جلت قبله : .
" سأشكر عمرا إن تراخت منيتي