وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن .
ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم .
وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة .
ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم . وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي A من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها .
وأمر رسوله A بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام .
( ن ) افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبينة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء .
ورسموا حرف ( ن ) بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمى اسمه الذي هو " نون " " بنون بعدها واو ثم نون " وكان القياس أن تكتب الحروف الثلاثة لأن الكتابة تبع للنطق والمنطوق به وهو اسم الحرف لا ذاته لأنك إذا أردت كتابة سيف مثلا فإنما ترسم سينا وياء وفاء ولا ترسم صورة سيف .
وإنما يقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة .
وينطق باسم نون ساكن الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها . وكذلك قرئ في القراءات المتواترة .
( والقلم وما يسطرون [ 1 ] ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 2 ] وإن لك لأجرا غير ممنون [ 3 ] وإنك لعلى خلق عظيم [ 4 ] ) يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى .
والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله . وعن مجاهد وقتادة : أنه القلم الذي في قوله تعالى ( الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) . قلت : وهذا هو المناسب لقوله ( وما يسطرون ) في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب .
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين ولهذا كان رسول الله A يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه . وتعريف ( القلم ) تعريف الجنس .
فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى .
وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) .
و ( ما يسطرون ) هي السطور المكتوبة بالقلم و ( ما ) يجوز أن تكون موصولة أي وما يكتبونه من الصحف ويجوز أن تكون مصدرية . والمعنى : وسطرهم الكتابة سطورا .
A E ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن ( وما يسطرون ) قسما بكتابتهم فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى ( والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا ) في سورة الزخرف . وتنظيره بقول أبي تمام : .
" وثناياك إنها أغريض... البيت ويسطرون : مضارع سطر يقال : سطر من باب نصر إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة . وأصله مشتق من السطر وهو القطع لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع