أعقب جملة ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ( الآية المقصود منها تهديدهم بعذاب السيف في الدنيا وإنذارهم بعذاب الآخرة وما قارن ذلك من مقابلة حالهم بحال المؤمنين بأن ضرب مثلين للفريقين بنظرين في حاليهما لتزداد الموعظة وضوحا ويزداد التنويه بالمؤمنين استنارة . وقد تقدمت فائدة ذكر الأمثال في قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) في سورة البقرة .
وضرب المثل : إلقاؤه وإيضاحه وتقدم ذلك عند قوله تعالى ( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما ) في سورة البقرة .
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا . وهذا المثل لا يخلوا من تعريض بحث زوجي النبي A على طاعته وبأن رضى الله تعالى يتبع رضى رسله . فقد كان الحديث عن زوجتي النبي A قريبا وكان عملهما ما فيه بارقة من مخالفة وكان في المثلين ما فيه إشعار بالحالين .
وتعدية ضرب اللام الدال على العلة تفيد أن إلقاء المثل لأجل مدخولا اللام . فمعنى : ( ضرب الله مثلا للذين كفروا ) أنه ألقى هذا التنظير لأجلهم أي اعتبارهم بهم وقياس حالهم على حال المثل به فإذا قيل : ضرب لفلان مثلا كان المعنى : أنه قصده به وأعلمه إياه كقوله تعالى ( ما ضربوه لك إلا جدلا ) ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) . ونحو ذلك وتقديم المجرور باللام على المفعولين للاهتمام بإيقاظ الذين كفروا .
فمعنى ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ) أن الله جعل حالة هاتين المرأتين عظة وتنبيها للذين كفروا أي ليذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صارف فلا يحبسوا أن لهم شفعاء عند الله ولا أن مكانهم من جوار بينه وعمارة مسجده وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيد بالنظر في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول A فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيها رسولي رب العالمين .
ومناسبة ضرب المثل بامرأة لوط دون غيرها من قرابة الأنبياء نحو أبي إبراهيم وابن نوح عليهما السلام لأن ذكر هاتين المرأتين لم يتقدم . وقد تقدم ذكر أبي إبراهيم وابن نوح لتكون في ذكرهما فائدة مستجدة وليكون في ذكرهما عقب ما سبق من تملوء أمي المؤمنين على زوجها A تعريض لطيف بالتحذير من خاطر الاعتزاز بغناء الصلة الشريفة عنهما في الوفاء بحق ما يجب من الإخلاص للنبي A ليكون الشبه في التمثيل وأقوى . فعن مقاتل " يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم " . ووضحه في الكشاف بأنه من قبيل التعريض . ومنعه الفخر وقال ابن عطية : " قال بعض الناس في المثلين عبرة لزوجات النبي A حين تقدم عتابهن . وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا " اه .
ويدفع استبعاده أن دلالة التعريض لا تنافي اللفظ الصريح ومن لطائف التقيد بقوله تعالى ( للذين كفروا ) أن المقصد الأصلي هو ضرب المثل للذين كفروا وذلك من الاحتراس من أن تحمل التمثيل على المشابهة من جميع الوجوه والاحتراس بكثرة التشبيهات ومنه تجريد للاستعارة .
وقصة امرأة نوح لم تذكر في القرآن في غير هذه الآية والذي يظهر أنها خانت زوجها بعد الطوفان وأن نوحا لم يعلم بخونها لأن الله سمى عملها خيانة .
وقد ورد في سفر التكوين من التوراة ذكر امرأة نوح مع الذين ركبوا السفينة وذكر خروجها من السفينة بعد الطوفان ثم طوى ذكرها لما ذكر الله بركته نوحا وبنيه وميثاقه معهم فلم تذكر معهم زوجه . فلعلها كفرت بعد ذلك أو لعل نوحا تزوج امرأة أخرى بعد الطوفان لم تذكر في التوراة .
ووصف الله فعل امرأة نوح بخيانة زوجها فقال المفسرون : هي خيانة في الدين أي كانت كافرة مسرة الكفر فلعل الكفر حدث مرة أخرى في قوم نوح بعد الطوفان ولم يذكر في القرآن .
وأما حديث امرأة لوط في القرآن مرات . وتقدم في سورة الأعراف ويقال : فلانة كانت تحت فلان أي كانت زوجا له .
والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في الموطأ وفي صحيح البخاري عن أم حرام بنت ملحان " وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت " .
A E