وتحريم النبي A سريته مارية على نفسه هو أيضا من قبيل تحريم أحد شيئا مما أحل الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق . و ( تحلة ) تفعلة من حلل جعل الفعل حلالا . واصله تحللة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة .
A E ( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [ 3 ] ) هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبي A بما حرم على نفسه من جرائهما .
وهو معطوف على جملة ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) بتقدير واذكر .
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنا بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبنى عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب ومكارم وتنبيه وتحذير .
فاشتملت هذه الآيات على عشرين من معاني ذلك إحداها ما تضمنه قوله ( إلى بعض أزواجه ) .
الثاني : قوله ( فلما نبأت به ) .
الثالث : ( وأظهره الله عليه ) .
الرابع : ( عرف بعضه ) .
الخامس : ( وأعرض عن بعض ) .
السادس : ( قالت من أنبأك هذا ) .
السابع : ( قال نبأني العليم الخبير ) .
الثامن والتاسع والعاشر : ( إن تتوبا إلى الله ) إلى ( فإن الله هو مولاه ) .
الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر : ( وجبريل وصالح والمؤمنين والملائكة ) .
الرابع عشر والخامس عشر : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا ) .
السادس عشر : ( خيرا منكن ) .
السابع عشر : ( مسلمات ) الخ .
الثامن عشر : ( سائحات ) .
التاسع عشر : ( ثيبات وأبكارا ) ويتأتي بيانها عند تفسير كل آية منها .
العشرون : ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان ( بعض أزواجه ) دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعر به أنها المقصودة باللوم .
وإنما نبأها النبي A بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل .
والحديث هو ما حصل من اختلاء النبي A بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة " هي علي حرام ولا تخبري عائشة " وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيه A على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسر إليها .
والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السر غير قصة تحريم النبي A على نفسه بعض ما أحل له .
ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي A الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نبأتها حفصة هي عائشة . وفي الصحيح عن ابن عباس قال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت : يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها .
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله .
و ( أسر ) أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارا وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوه فيقوله صاحبه سرا والسر ضد الجهر قال تعالى ( ويعلم ما تسرون وما تعلنون ) فصار ( أسر ) يطلق بمعنى الوصاية بعدم الإفشاء أي عدم الإظهار قال تعالى ( فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ) .
وأسر : فعل مشتق من السر فإن الهمزة فيه للجعل أي جعله ذا سر يقال : أسر في نفسه إذا كنتم سره . ويقال : أسر إليه إذا حدثه بسر فكأنه أنهاه إليه ويقال : أسر له إذا أسر أمرا لأجله وذلك في إضمار الشر غالبا وأسر بكذا أي أخبر بخبر سر إذا وضع شيئا خفيا . وفي المثل " يسر حسوا في ارتغاء "