وجعلت عدة المطلقة الحامل منهاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولد للمطلق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له . وضم إلى ذلك غرض آخر وهو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة فلما حصل الأهم ألغي ما عداه رعيا لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار على أن الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلا بالغالب دون النادر خلافا لمن قال في المتوفى عنها : عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن العباس .
وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة البقرة ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) لأن تلك في واد وهذه في واد تلك شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات .
ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرة حكمته في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولد له إذ لا فائدة فيه غير ذلك " ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي " وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بيناه في تفسير قوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن ) الخ في سورة البقرة .
وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحامل إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشرا كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك .
من أجل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة في وفاة .
ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم : إن عدة الحامل المتوفى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العام المتأخر منهما ينسخ العام الآخر وهي طريقة المتقدمين .
روى أهل الصحيح " أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن علي بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفى عنها : إن عليها أقصى الأجلين " أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر ) قال ابن مسعود : لنزلت سورة النساء القصرى " أي سورة الطلاق " بعد الطولى " أي بعد طولى السور وهي البقرة " أي ليست ىية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق . ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفى زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملا فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة . فاستأذنت رسول الله A في التزوج فقال لها : قد حللت فانكحي إن شئت " . روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم . وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفا .
واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمرجح والحنفية جعلوا المتأخر من العمودين ناسخا للمتقدم . فقوله ( وأولات الأحمال ) لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة الطلاق أو في عدة وفاة وقوله ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) تعم كل امرأة تركها الميت سواء كانت حاملا أو غير حامل لأن ( أواجا ) نكرة وقعت مفعول الصلة وهي ( يذرون ) المشتملة على ضمير الموصول الذي هو عام فمفعوله تبع له عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم ( أولات الأحمال ) فتعارض العمومان كل من وجه فآية ( وأولات الأحمال ) اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشرا . وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل .
فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم ( وأولات الأحمال ) على عموم ( ويذرون أزواجا ) من وجوه .
A E