لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت . فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) إلى قوله ( إن الله بالغ أمره ) لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل يعرضها على ارتباك أحواله أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا حين يتبع نظره فيرى بونا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس .
فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيرا بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدرا .
ولها موقع التعليل لجملة ( وأحصوا العدة ) فإن العدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها غلل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله فلا يسوغ التهاون فيه .
ولها موقع التذييل لجملة ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدرا لا يعدوه كما جعل الحدود .
ولها موقع التعليل لجملة ( فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) لأن المعنى إذا بلغن القدر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) فالمعنى : فإن لم يحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحط عنكم امتداد العدة .
ولها موقع التعليل لجملة ( وأقيموا الشهادة لله ) فإن الله جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع .
فهذه الجملة جزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة .
ومعنى ( لكل شيء ) لكل موجود أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتا أو معنى من المعاني قال تعالى ( وكل شيء فعلوه في الزبر ) . فعموم قوله ( لكل شيء ) صريح في أن ما وعد الله به يجعل له حين تكوينه قدرا .
قال الراغب في مفرداته : وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها . ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالصلاحية وقدره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون . وتقديره نطفة الإنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر . فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحكم منه أن تكون كذا أو لا يكون كذا : إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإمكان . وعلى ذلك قوله ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . والثاني بإعطاء القدرة عليه وعلى ذلك قوله ( فقدرنا فنعم القادرون ) أو يكون من قبيل قوله ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) اه .
والقدر : مصدر قدره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وضع فيه بمقدار كمية ذاتية أو معنوية تجعل على حسب ما يتحمله المفعول . فقدر كل مفعول لفعل قدر ما تتحمله طاقته واستطاعته من أعمال أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وعيه لما يكد به ذهنه من مدارك وأفهام . ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) في سورة البقرة . وقوله هنا ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) .
ومن جزئيات معنى القدر ما يسمى التقدير : مصدر قدر المضاعف إذا جعل شيئا أو أشياء على مقدار معين مناسب لما جعل لأجله كقوله تعالى ( وقدر في السرد ) في سورة سبأ .
( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) A E عطف على قوله ( فطلقوهن لعدتهن ) فإن العدة هنالك أريد بها الإقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة . وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض أي في ذلك الوقت .
والوقف على قوله ( واللاء لم يحضن ) أي هن معطوفات على الآيسين