ولما كان أمر الطلاق غير حال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده أن يجعل لهم مخرجا من الضائقات شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحال فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعل منفذ في المكان المغلق بتخلص منه المتضائق فيه .
ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المخرج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضا بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار فالمخرج لهم في الآخرة هو الإسراع بهم إلى النعيم .
ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضا كثيرا للناس بعد التطليق أتبع الوعد بجعل المخرج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق .
وقوله ( من حيث لا يحتسب ) احتراس لئلا يتوهم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالا ينفق منه فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهئ له أسبابا غير مترقبة .
فمعنى من حيث لا يحتسب : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه .
و ( حيث ) مستعملة مجازا في الأحوال والوجوه تشبيها للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يرد منه الوارد ولذلك كانت ( من ) هنا للابتداء المجازي تبعا لاستعارة حيث . ففي حرف ( من ) استعارة تبعية . وذكر الواحدي في أسباب النزول أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذ أسر المشركون ابنه سالما فأتى عوف النبي A وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله A : " اتق الله واصبر " وأمره وزوجته أن يكثرا قولا لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فساق عنزا كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن .
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بلغ أمره ) تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريح الكرب والخلاص من المضائق وملاحظة المسلم ذلك ويقينه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى ويحقق وعد اله إياه بأن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .
وحسب : وصف بمعنى كاف . وأصله اسم مصدر أو مصدر .
وجملة ( إن الله بالغ أمره ) في موضع العلة لجملة ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه .
ولعل قوله ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) إشارة إلى هذا المعنى أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمة فقدر لذلك أسبابه كما قدر أسباب الأشياء كلها فلا تشكوا في إنجاز وعده فإنه إذا أراد أمرا يسر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة .
A E ومعنى ( بالغ أمره ) : واصل إلى مراده . والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد . والأمر هنا بمعنى الشأن .
وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) قال أصحاب النبي A " أي بعضهم " : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت ( إن الله بالغ أمره ) أي فيكم وعليكم اه .
وقرأ الجمهور ( بالغ ) بالتنوين و ( أمره ) بالنصب . وقرأه حفص عن عاصم ( بالغ أمره ) بإضافة ( بالغ ) إلى ( أمره ) .
( قد جعل الله لكل شيء قدرا [ 3 ] )