والمخاطب بضمير أحصوا هم المخاطبون بضمير إذا طلقتم فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة . وقد بينا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي ( مقاصد الشريعة ) .
ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلق والمطلقة وهي تستتبع حقوقا للمسلمين وولاة أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم .
( واتقوا الله ربكم ) اعتراض بين جملة ( وأحصوا العدة ) وجملة ( لا تخرجوهن من بيوتهن ) . والواو اعتراضية .
وحذف متعلق اتقوا الله ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله .
فقوله ( واتقوا الله ربكم ) تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة . وذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزنا وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدي وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى اتبع اسم الجلالة بوصف ربكم للتذكير بأنه حقيق بأن يتقي غضبه .
( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) استئناف أو حال من ضمير أحصوا العدة أي حالة كون العدة في بيوتهن ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة أحصوا العدة لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة .
ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو وجوازا أو وجوبا .
وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه ملك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاتي كن فيها أزواجا استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب " ربة البيت " وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق .
وهذا الحكم سببه مركب من قصد المكارمة بين المطلق والمطلقة . وقصد الانضباط في على الاعتداد تكميلا لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلق حتى يبرأ النسب من كل شك .
وجملة ( ولا يخرجن ) عطف على جملة ( لا تخرجوهن ) وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يخرجها فترغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج . فإذا كان البيت مكترى سكنته المطلقة زكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة .
وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعرضه فهذا مقتضى الآية . ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا وقال ابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور : حفظ النسب وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها . وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى ( أسكنوهن من حيث سكنتم ) الآية . وتعلم أن ذلك تأكيدا لما في هذه الآية من وجوب الإسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله ( من وجدكم ) وما عطف عليه .
A E والاستثناء في قوله ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول . ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقا لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة . وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله ( لا تخرجوهن ) ( ولا يخرجن ) . فالمعنى : إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجن أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه .
والفاحشة : الفعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنى كما في قوله تعالى ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ) الآية في ( سورة النساء )