وذكر الله فسر بالصلاة وفسر بالخطبة بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير . قال أبو بكر بن العربي " والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة " .
قلت : وإيثار " ذر الله " هنا دون أن يقول : إلى الصلاة كما قال " فإذا قضيت الصلاة " لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة . وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة . وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلا في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر .
وفي حديث الموطأ " فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " ولا شك أن الإمام إذا خرج ابتداء بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية . وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالا على عير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) .
ومثل البيع كما يشغل عن السعي إلى الجمعة وبعد كون البيع وما قيس عليه منها فقد اختلف في نسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة . وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لدليل . وقول مالك في المدونة : إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ . وقال الشافعي : لا يفسخ . وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضا .
وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة : ففي العتيبة عن ابن القاسم : لا يفسخ . ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجبا لفسخ المقيس . وكذلك قال أئمة المالكية : لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع .
A E وخطاب الآية جميع المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان . وشذ قوم قالوا : إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس : ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها .
و ( من ) في قوله ( من يوم الجمعة ) تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه فنزل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء .
ويجوز كون ( من ) للظرفية مثل التي في قوله تعالى ( أروني ماذا خلقوا من الأرض ) أي فيها من المخلوقات الأرضية .
والإشارة ب ( ذلكم ) إلى المذكور أي ما ذكر من أمر بالسعي إليها وأمر بترك البيع حينئذ لأي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات . فلفظ ( خير ) اسم تفضيل أصله : أخير حذفت همزته لكثرة الاستعمال .
والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه .
والمفضل : الصلاة أي ثوابها .
والمفضل عليه : منافع البيع للبائع والمشتري .
وإنما أعقب بقوله تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) تنبيها على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة وذكر الله والأمر في ( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) للإباحة .
والمراد ب ( فضل الله ) : اكتساب المال والرزق .
وأما قوله ( واذكروا الله كثيرا ) فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابا ينسي ذكر الله أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى .
( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [ 11 ] ) عطف على جملة ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) الآية . عطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسلكت في المعطوفة طريقة الالتفاف لخطاب إيذانا بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من الحضور . وأخبر عنهم بحال الغائبين وفيه تعريض بالتوبيخ .
ومقتضى الظاهر أن يقال : وإذا رأيتم تجارة أو لهوا فلا تنفضوا إليها . ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفرا منهم بقوا مع النبي A حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو