فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذ وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم فهو حكاية عن مجموع قوم . وأما الأخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معينة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء .
فعلى الأول يحمل حال عمير بن الحمام في قوله : .
" جريا إلى الله بغير زاد وحال جعفر بن أبي طالب يوم موته وقد اقتحم صف المشركين : .
" يا حبذا الجنة واقترابها وقول عبد الله بن رواحة : .
لكنني أسأل الرحمان مغفرة ... وضربة ذات فزغ تقذف الزبدا المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونه الجزاء الأحسن والمغفرة التامة .
وعلى الثاني يحمل قول النبي A لعائشة في تأويل قوله ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ) إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله . وقول موسى عليه السلام لملك الموت : ( فالآن ) .
( ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين [ 7 ] ) اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحيهم لإقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله .
وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم يتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) . وقد مر ذلك في تفسير سورة العقود .
A E والباء في ( بما قدمت أيديهم ) سببية متعلقة بفعل ( يتمنونه ) المنفي فما قدمت أيديهم هو سبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمتي الموت لتقدم الحجة عليهم .
و ( ما ) موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله .
والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالبا . وما صدق ( ما قدمته أيديهم ) سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام .
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرته هنا أتم مما هنالك فأجمع بينهما .
والتقديم : أصله جعل الشيء مقدما أي سابقا غيره في مكان يقعوه فيه غيره . واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيها له بشيء يسبقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه .
وجملة ( والله عليم بالظالمين ) أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين . وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها . وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة وتقدم عند قوله تعالى ( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ) والمقصود أن أحجامهم عن تمني الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم .
( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون [ 8 ] ) تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بعد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسيانا إذ هو عالم الغيب والشهادة . وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) وإعادة فعل ( قل ) من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى ( تكون لنا عيدا لأولنا وأخرنا ) في سورة العقود .
ووصف ( الموت ) ب ( الذي تفرون منه ) للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة : .
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة .
واقتران خبر ( إن ) بالفاء في قوله ( فإنه ملاقيكم ) لأن اسم ( إن ) نعت باسم الموصول والموصول كثيرا ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم ( إن ) المنعوت بالموصول معاملة نعته .
وإعادة ( إن ) الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير : .
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم