و ( مثل القوم ) فاعل ( بئس ) . وأفنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإيهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثل المذكور قبله في قوله ( كمثل الحمار يحمل أسفارا ) . فصار إعادة لفظ المثل ثقيلا في الكلام أكثر من ثلاث مرات . وهذا من تفننات القرآن . و ( الذين كذبوا ) صفة ( القوم ) .
وجملة ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) تذييل إخبارا عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسول A بالتكذيب دون نظر وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر .
قال في الكشاف : " وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث " أي آيات من هذه السورة : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) . وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفارا وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة .
( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 6 ] ) أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم . وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شؤونهم أفضل من شؤون غيرهم . ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا وفي الكشاف " افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة " .
وافتتح بفعل ( قل ) للاهتمام .
A E و ( الذين هادوا ) : هم الذين كانوا يهودا وتقدم وجه تسمية اليهود يهودا عند قوله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) في سورة البقرة . ويجوز أن يكون ( هادوا ) بمعنى تابوا لقول موسى عليه السلام بعد أن أخذتهم الرجفة : ( إنا هدنا إليك ) كما تقدم في سورة الأعراف . وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد . وأصل هود هوود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علما بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم .
وجيء ب ( إن ) الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة العقود ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ) للإشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعا على طريقة قوله تعالى ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين ) ويفيد ذلك توبيخا بطريق الكناية .
والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت . وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه .
والأمر في قوله ( فتمنوا ) مستعمل في التعجيز : كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) .
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموت رجوع الإنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله .
والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تحصل أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما واختلاف أحوال أهلهما فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس . وهذا ما دل عليه قوله تعالى ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ) .
وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت . وما روي أن النبي A قال : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " فقالت عائشة : " إنا نكرة الموت فقال لها ليس ذلك " الحديث . وما روي عنه أنه قال : " أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ) إلى قوله ( قال موسى فالآن ) .
ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود