والنفي ب ( لما ) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقب الثبوت كقوله تعالى ( ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ) أي وسيدخل كما في الكشاف والمعنى : أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى .
واعلم أن قول النبي A " لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء " الإيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى ( وآخرين منهم ) لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب ( آخرين ) في قوم سلمان . وعن عكرمة : هم التابعون . وعن مجاهد : هم الناس كلهم الذين بعث إليهم محمد A . وقال ابن عمر : هم أهل اليمن .
وقوله ( وهو العزيز الحكيم ) تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم . فإن العزيز لا يغلب قدرته شيء . والحكيم تأتي أفعاله عن قدر محكم .
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [ 4 ] ) الإشارة إلى جميع المذكور من إرسال محمد A بالآيات والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة والإنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة وهذا أجدع لأنفهم إذا حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلا عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان .
وقال ( قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) يختص به . وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى ( مثل الذين حملوا التوراة ) الآيات .
( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين [ 5 ] ) A E بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوما أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاف في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد A وظاهروا المشركين .
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلا بحال حمار يحمل أسفارا لا حظ له منها إلا الحمل دون علم ولا فهم .
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطا بأخطاء وضلالات ومتبعا فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها . وقال في الكشاف عن بعضهم : افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب . والعرب لا كتاب لهم . فأبطل الله ذلك بشبههم بالحمار يحمل أسفارا .
ومعنى ( حملوا ) : عهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا يقال : حملت فلانا أمر كذا فاحتمله قال تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) سورة الأحزاب .
وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة بتشبيه إيكال الأمر بحمل الجمل على ظهر الدابة وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفارا تمثيلا للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي . وهو من لطائف القرآن .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عهد إليهم أعجب من تحملهم إياه . وجملة ( يحمل أسفارا ) في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظا نكرة معنى فصح في الجملة اعتبار الحالية والوصف .
وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ولذلك ذيل بذم حالهم ( بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ) .
و ( بئس ) فعل ذم أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيبا بآيات الله وهي القرآن