وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم فإن كون رسول القوم منهم نعمة زائدة على نعمة الإرشاد والهدي وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم .
وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم وبحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم .
والأميين : صفة لموصوف محذوف دل عليه صيغة جمع العقلاء أي في الناس الأميين . وصيغة جمع المذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي أي في الأميين والأميات فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة .
والأميون : الذين لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة يعنون بها أمة العرب لأنهم لا يكتبون إلا نادرا فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم قال تعالى في ذكر بني إسرائيل ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) وقد تقدم في سورة البقرة .
وأوثر التعبير به هنا توركا على اليهود لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي A جهلا منهم فيقولون : هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا . وقد قال ابن صياد للنبي A لما قال له ( أتشهد أني رسول الله ) . أشهد أنك رسول الأميين . وكان ابن صياد متدينا باليهودية لأن أهله كانوا حلفاء لليهود .
وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال تعالى ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولا إلى الأميين وبأن الرسول أمي وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا يغيرهم وقد قال تعالى من قبل لموسى ( ونريد أن تمن على الذين استضعفوا في الأرض فتجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ) .
A E ووصف الرسول بأنه منهم أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية . وهذا من إيجاز القرآن البديع .
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب باكتابة ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول A أي هو مع كونه أمي قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئا فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى .
وفي وصف الأمي بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن الطباق لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية .
وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجي المعنوي وهو الشرك وما يعلق به من مساوي الأعمال والطباع .
وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تبين لهم مقاصده ومعانيه كما قال تعالى ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) وقال ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة قال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) ونظيرها قوله ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) في سورة آل عمران .
وجملة ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) في موضع الحال من الأميين أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإشراك بالله . وإنما كان ضلالا مبينا لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة