يجوز أن تكون عطفا على مجموع الكلام الذي قبلها ابتداء من قوله ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة ) على احتمال أن ما قبلها كلام صادر من جانب الله تعالى عطف غرض على غرض فيكون الأمر من الله لنبيه A بأن يبشر المؤمنين . ولا يتأتى في هذه الجملة فرض عطف الإنشاء على الإخبار إذ ليس عطف جملة على جملة بل جملة على مجموع جمل على نحو ما اختاره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ) الآية في أوائل سورة البقرة وما بينه من كلام السيد الشريف في حاشية الكشاف .
وأما على احتمال أن يكون قوله ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم ) إلى آخره مسوقا لأمر رسول الله A بأن يقول ( هل أدلكم على تجارة ) بتقدير قول محذوف أي قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم إلى آخره فيكون الأمر في ( وبشر ) التفاتا من قبيل التجريد . والمعنى : وابشر المؤمنين .
وقد تقدم القول في عطف الإنشاء على الإخبار عند قوله تعالى ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) في أوائل سورة البقرة .
والذي استقر عليه رأيي الآن أن الاختلاف بين الجملتين بالخبرية والإنشائية اختلاف لفظي لا يؤثر بين الجملتين اتصالا ولا انقطاعا لأن الاتصال والانقطاع أمران معنويان وتابعان للأغراض فالعبرة بالمناسبة المعنوية دون الصيغة اللفظية وفي هذا مقنع حيث فاتني التعرض لهذا الوجه عند تفسير آية سورة البقرة .
A E ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [ 14 ] ) هذا خطاب آخر للمؤمنين تكملة لما تضمنه الخطاب بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة ) إلى قوله ( وتجاهدون في سبيل الله ) الآية الذي هو المقصود من ذلك الخطاب فجاء هذا الخطاب الثاني تذكيرا بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى عليه السلام مع قلة عددهم وضعفهم .
فأمر الله المؤمنين بنصر الدين وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله ( وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) الآية ووعدهم عليه بأن ينصرهم الله فهذا النصر المأمور به هنا نصر دين الله الذي آمنوا به بأن يبثوه ويثبتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهل الكتاب قال تعالى ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السلام فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه ولا كان الحواريون ممن جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دب إليه التغيير حتى جاء الإسلام منسخة من أصله .
والأنصار : جمع نصير وهو الناصر الشديد النصر .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ( كونوا أنصارا لله ) بتنوين ( أنصارا ) وقرن اسم الجلالة باللام الجارة فيكون ( أنصارا ) مرادا به دلالة اسم الفاعل المفيد للإحداث أي محدثين النصر واللام للأجل أي لأجل الله أي ناصرين له كما قال تعالى ( فلا ناصر لهم ) .
وقرأه الباقون بإضافة ( أنصار ) إلى اسم الجلالة بدون لام على اعتبار أنصار كاللقب على نحو قوله ( من أنصاري ) .
والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيه تمثيل أي كونوا عند ما يدعوكم محمد A إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له .
والتشبيه لقصد التنظير والتأسي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب