والتبشير : الإخبار بحادث يسر وأطلق هنا على الإخبار بأمر عظيم النفع لهم لأنه يلزمه السرور الحق فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة .
ووجه إيثار هذا اللفظ الإشارة إلى ما وقع في الإنجيل من وصف رسالة الرسول الموعود به بأنها بشارة الملكوت .
وإنما أخبرهم بمجيء رسول من بعده لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسول من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم وهذا الانتظار ديدنهم وهم موعودون لهذا المخلص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى . فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناء بهذه الوصية .
وفي الابتداء بها تنبيه على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر وأن المنتظر رسول يأتي من بعده وهو محمد A .
ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه فيكون انطباقها فاتحة لإقبالهم على تلقي دعوته وإنما يعرفها حق معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم قال تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) . وقال ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .
A E وقد وصف الله بعض صفات هذا الرسول لموسى عليه السلام في قوله تعالى حكاية عن إجابته دعاء موسى ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكبتها للذين يتقون ) إلى قوله ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .
فلما أراد الله تعالى إعداد البشر لقبول رسالة هذا الرسول العظيم الموعود به A استودعهم أشراطه وعلاماته على لسان كل رسول أرسله إلى الناس . قال تعالى ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لنؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) أي أأخذتم إصري من أممكم على الإيمان بالرسول الذي يجيء مصدقا للرسل . وقوله ( فاشهدوا ) أي على أممكم وسيجيء من حكاية كلام عيسى في الإنجيل ما يشرح هذه الشهادة .
وقال تعالى في خصوص ما لقنه إبراهيم عليه السلام ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ) الآية .
وأوصى به عيسى عليه السلام في هذه الآية وصية جامعة لما تقدمها من وصايا الأنبياء وأجملها إجمالا على طريق الرمز . وهو أسلوب من أساليب أهل الحكمة والرسالة في غير بيان الشريعة قال السهرودي قي تلك حكمة الإشراق " وكلمات الأولين مرموزة " فقال قطب الدين الشيرازي في شرحه : " كانوا يرمزون في كلامهم إما تشحيذا للخاطر باستكداد الفكر أو تشبيها بالباري تعلى وأصحاب النواميس فيما أتوا به من الكتب المنزلة المرموزة لتكون أقرب إلى فهم الجمهور فينتفع الخواص بباطنها والعوام بظاهرها . اه " أي ليتوسمها أهل العلم من أهل الكتاب فيتحصل لهم من مجموع تفصيلها شمائل الرسول الموعود به ولا يلتبس عليهم بغيره ممن يدعي ذلك كذبا . أو يدعيه له طائفة من الناس كذبا أو اشتباها .
ولا يحمل قوله ( أسمه أحمد ) على ما يتبادر من لفظ اسم من أنه العلم المجهول للدلالة على ذات معينة لتميزه من بين من لا يشاركها في ذلك الاسم لأن هذا الحمل يمنع منه وأنه ليس بمطابق للواقع لأن الرسول الموعود به لم يدعه الناس أحمد فلم يكن أحد يدعوا النبي محمدا A باسم أحمد لا قبل نبوءته ولا بعدها ولا يعرف ذلك .
وأما ما وقع في الموطأ والصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي A أنه قال : " لي خمسة أسماء : أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " فتأويله أنه أطلق الأسماء على ما يشمل الاسم العلم والصفة الخاصة به على طريقة التغليب . وقد رويت له أسماء غيرها استقصاها أبو بكر ابن العربي في العارضة والقبس