والاستفهام للإنكار أي إنكار أن يكون للإذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى ( لم تقولون ما لا تفعلون ) .
وقد جاءت جملة الحال من قوله ( وقد تعلمون أني رسول الله ) مصادفة المحل من الترقي في الإنكار .
و ( من ) لتحقيق معنى الحالية أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته وكما أكد علمهم ب ( قد ) أكد حصول المعلوم ب ( أن ) المفتوحة فحصل تأكيدان للرسالة . والمعنى : فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم .
والإتيان بعد ( قد ) بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدد بتجدد الآيات والوحي وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دل على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى . ولعله قد طرأ عليه ما يبطله وهذا كالمضارع في قوله تعالى ( قد يعلم الله المعوقين منكم ) في سورة الأحزاب .
والزيغ : الميل عن الحق أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغا أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال .
وجملة ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) تذييل أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوه من أهل ذلك العموم .
وذكر وصف ( الفاسقين ) جاريا على لفظ ( القوم ) للإيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقومات قوميتهم . كما تقدم عند قوله تعالى ( إن في خلق السماوات والأرض ) إلى قوله ( لآيات لقوم يعقلون ) في البقرة .
فالمعنى : الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات .
A E ( وإذ قال عيسى أبن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين [ 6 ] ) عطف على جملة ( وإذ قال موسى لقومه ) فعلى الوجه الأول في موقع التي قبلها فموقع هذه مساو له .
وأما على الوجه الثاني في الآية السابقة فإن هذه مسوقة مساق التتميم لقصة موسى بذكر مثال آخر لقوم حادوا عن طاعة رسول الله A إليهم من غير إفادة تحذير للمخاطبين من المسلمين وللتخلص إلى ذكر أخبار عيسى بالرسول الذي يجيء بعده .
ونادى عيسى قومه بعنوان ( بني إسرائيل ) دون ( يا قوم ) لأن بني إسرائيل بعد موسى اشتهروا بعنوان ( بني إسرائيل ) ولم يطلق عليهم عنوان : قوم موسى إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوما بسببه وشريعته .
فأما عيسى فإنما كان مرسلا بتأييد شريعة موسى والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدقوه فلم يكونوا قوما له خالصين .
وتقدم القول في معنى ( مصدقا لما بين يدي من التوراة ) في أوائل سورة آل عمران وفي أثناء سورة العقود .
والمقصود من تنبيههم على هذا التصديق حين ابتداءهم بالدعوة تقريب إجابتهم واستنزال طائرهم لشدة تمسكهم بالتوراة واعتقادهم أن أحكامها لا تقبل النسخ وأنها دائمة . ولذلك لما ابتداءهم بهذه الدعوة لم يرد عليها ما حكى عنه في سورة آل عمران من قوله ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) فيحمل ما هنالك على أنه خطاب واقع بعد أول الدعوة فإن الله لم يوح إليه أول مرة بنسخ بعض أحكام التوراة ثم أوحاه إليه بعد ذلك . فحينئذ أخبرهم بما أوحى إليه .
وكذلك شأن التشريع أن يلقى إلى الأمة تدريجا كما في حديث عائشة في صحيح البخاري أنها قالت : " إنما أنزل أول ما أنزل منه " أي القرآن " سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو أنزل أول شيء : لا تشربوا الخمر لقالوا : لا نترك الخمر أبدا ولو نزل : لا تزنوا : لقالوا : لا ندع الزنى أبدا . لقد نزل بمكة على محمد A وإني لجارية ألعب ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده اه " .
فمعنى قوله ( مصدقا لما بين يدي من التوراة ) في كلتا الآيتين هو التصديق بمعنى التقرير والأعمال على وجه الجملة أي أعمال مجموعها وجمهرة أحكامها ولا ينافي ذلك أنه قد تغير بعض أحكامها بوحي من الله في أحوال قليلة