مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بان تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية . وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدوا حق تسبيح الله لأن الله مستحق لأن يوفى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوهم .
وتقدم الكلام على نظير قوله ( سبح لله ) إلى ( الحكيم ) في أول سورة الحشر وسورة الحديد .
وفي إجراء وصف ( العزيز ) عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوه فما كان لكم أن ترهبوا أعداءه فتفروا منهم عند اللقاء .
وإجراء صفة ( الحكيم ) إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدو عبثا ولا يخليهم يغلبونكم . وإن حملت على معنى المحكم للأمور فكذلك .
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون [ 2 ] كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 3 ] ) ناداهم بوصف الإيمان تعريضا بأن الإيمان من شأنه أن يزغ المؤمن عن أن يخالف فعله قوله في الوعد بالخير .
واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبهم الذي هو مدلول " ما " الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه .
والتقدير : تقولون ما لا تفعلون لأي سبب أو لأية علة .
وتتعلق اللام بفعل ( تقولون ) المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام .
والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضيا لله تعالى أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى ( قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) في سورة البقرة .
فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعدا وعدوه ولم يفوا به . ويجوز أن يكون خبرا أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع . وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة .
A E وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح .
وتعقيب الآية بقوله ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ) إلخ . يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله . وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في الكشاف .
وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإيمان بالقلب ولا بالجسد . قال ابن زيد : هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك .
وجملة ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) بيان لجملة ( لم تقولون ما لا تفعلون ) تصريحا بالمعنى المكنى عنه بها .
وهو خبر عن كون قولهم ( ما لا تفعلون ) أمرا كبيرا في جنس المقت .
والكبر : مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه .
و ( أن تقولوا ) فاعل ( كبر ) .
والمقت : البغض الشديد . وهو هنا بمعنى اسم المفعول .
وانتصب ( مقتا ) على التمييز لجهة الكبر . وهو تمييز نسبة .
والتقدير : كبر ممقوتا قولكم ما لا تفعلونه .
ونظم هذا الكلام بطريقة الإجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أحد . ففيه وعيد على تجدد مثله وزيد المقصود اهتماما بأن وصف المقت بأنه عند الله أي مقت لا تسامح فيه .
وعدا عن جعل فاعل ( كبر ) ضمير القول بأن يقتصر على ( كبر مقتا عند الله ) أو يقال : كبر ذلك مقتا لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه ولإفادة التأكيد .
و ( ما ) في قوله ( ما لا تفعلون ) في الموضعين موصولة وهي بمعنى لام العهد أي الفعل الذي وعدتم أن تفعلوه وهو أحب الأعمال إلى الله أو الجهاد . فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصود منه القربة فيجب الوفاء به .
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 4 ] ) هذا جواب على تمنيهم معرفة أحب الأعمال إلى الله كما في حديث عبد الله بن سلام عند الترمذي المتقدم وما قبله توطئة له على أسلوب الخطب ومقدماتها