وقد فرع على قوله ( ابتدعوها ) و ( ما كتبناها عليهم ) وما بعد قوله ( فما رعوها حق رعايتها ) أي فترتب على التزامهم الرهبانية أنهم أي الملتزمين للرهبانية ما رعوها حق رعايتها . وظاهر الآية أن جميعهم قصروا تقصيرا متفاوتا قصروا في أداء حقها وفيه إشعار بأن ؟ ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به .
والرعي : الحفظ أي ما حفظوها حق حفظها واستعير الحفظ لاستيفاء ما تقتضيه ماهية الفعل فالرهبانية تحوم حول الإعراض عن اللذائذ الزائلة وإلى التعود على الصبر على ترك المحبوبات لئلا يشغله اللهو بها عن العبادة والنظر في آيات الله فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها .
و ( حق رعايتها ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي رعايتها الحق .
وحق الشيء : هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع .
والمعنى : ما حفظوا شؤون الرهبانية حفظا كاملا فمصب النفي هو القيد بوصف ( حق رعايتها ) .
وهذا الانتفاء له مراتب كثير والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزدادا من الكلام .
وقال النبي A " احب الدين إلى الله أدومه " .
وقوله ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) تفريع على جملة ( وجعلنا في قلوب الذين أتبعوا ) إلى آخرها وما بينها استطراد .
والمراد ب ( الذين آمنوا ) المتصفون بالإيمان المصطلح عليه بالقرآن وهو توحيد الله تعالى والإيمان برسله في كل زمان أي فآتيناه الذين آمنوا من الذين أتبعوه أجرهم أي الذين لم يخلقوا متابعتهم إياه بما يفسدها مثل الذين اعتقدوا إلهية عيسى عليه السلام أو بنوته لله ونحوهم من النصارى الذي أدخلوا في الدين ما هو مناقض لقواعده وهم كثير من النصارى كما قال ( وكثير منهم فاسقون ) .
والمراد بالفسق : الكفر وهذا ثناء عن المؤمنين الصادقين ممن مضوا من النصارى قبل البعثة المحمدية وبلوغ دعوتها إلى النصارى وادعاؤهم أنهم أتباع المسيح باطل لأنهم ما أتبعوه إلا في الصورة والذين أفسدوا إيمانهم بنقص حصوله هم المراد بقوله تعالى ( وكثير منهم فاسقون ) أي وكثير من الذين التزموا دينهم خارجون عن الإيمان فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا كما قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن كثير من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم [ 28 ] ) الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد A ولكن لما وقع ( يا أيها الذين آمنوا ) هنا عقب قوله ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) أي من الذين أتبعوا عيسى عليه السلام أحتمل قوله ؟ ( يا أيها الذين آمنوا ) أن يكون مستعملا استعماله اللقبي أعني : كونه كالعلم بالغلبة على مؤمني ملة الإسلام . وأحتمل أن يكون قد أستعمل استعماله اللغوي الأعم أعني : من حصل منه إيمان وهو هنا من آمن بعيسى . والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودان ليأخذ خلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإيمان بمحمد A ليستكملوا ما سبق من إتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجها إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى أي يا أيها الذين آمنوا إيمانا خالصا بشريعة عيسى اتقوا الله واخشوا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد A .
وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإطلاق اللقبي فيأخذ منه المؤمنون أهل الملة الإسلامية بشارة بأنهم لا يقل أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤني ؟ أهل مللهم ويكون قوله ( وآمنوا ) مستعملا في الدوام على الإيمان كقوله ؟ ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) في سورة النساء ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتمال قصدا لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يردف عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن .
A E