ومعنى : وابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناه لهم ولكنهم اتبغوا بها رضوان الله فقبلها الله منهم لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم في أحوالهم .
وضمير الرفع من ( ابتدعوها ) عائد إلى الذين اتبعوا عيسى . والمعنى : أنهم ابتدعوا العمل بها فلا يلزم أن يكون جميعهم اخترع أسلوب الرهبانية ولكن قد يكون بعضهم سنها وتابعه بقيتهم .
والذين اتبعوه صادقا على من أخذوا بالنصرانية كلهم وأعظم مراتبهم هم الذين اهتدوا بسيرته اهتداء كاملا وانقطعوا لها وهم القائمون بالعبادة .
والإتيان بالموصول وصلته إشعار بأن جعل الرأفة والرحمة في قلوبهم متسبب عن اتباعهم سيرته وانقطاعهم إليه .
وجملة ( ما كتبناها عليهم ) مبينة لجملة ( ابتدعوها ) وقوله ( إلا ابتغاء ( رضوان الله ) احتراس ومجموع الجمل الثلاث استطراد واعتراض .
والاستثناء بقوله ( إلا ابتغاء رضوان الله ) معترض بين جملة ( ما كتبناها عليهم ) وجملة ( وما رعوها ) .
وهو استثناء منقطع والاستثناء المنقطع يشمله حكم العامل في المستثنى منه وإن لم يشمله لفظ المستثنى منه فإن معنى كونه مقطعا أنه منقطع عن مدلول الاسم الذي قبله وليس منقطعا عن عامله فالاستثناء يقتضي أن يكون ابتغاء رضوان الله معمولا في المعنى لفعل ( كتبناها ) فالمعنى : لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله أي أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها .
وقوله ( إلا ابتغاء رضوان الله ) يجوز أن يكون نفيا لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها أي ليست ما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها . ويجوز أن يكون نفيا لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغي به رضوان الله أي كتبوها على أنفسهم تحقيقا لما فيه رضوان الله فيكون كقوله تعالى ( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) وقول النبي A " شددوا فشدد الله عليهم " في قصة ذبح البقرة . وهذا هو الظاهر من الآية .
وانتصب ( ابتغاء ) على المفعول به لفعل ( كتبناها ) ولك أن تجعله مفعولا لأجله بتقدير فعل محذوف بعد حرف الاستثناء أي لكنهم ابتدعوها لابتغاء رضوان الله .
وفي هذه الآية على اظهر الاحتمالين إشارة إلى مشروعية تحقيق المناط وهو إثبات العلة في آحاد جزئياتها وإثبات القاعدة الشرعية في صورها .
وفي حجة لانقسام البدعة إلى محمودة ومذمومة بحسب اندراجها تحت نوع من أنواع المشروعية فتعتريها الأحكام الخمسة كما حققه الشهاب القرافي وحذاق العلماء . وأما الذين حاولوا حصرها في الذم فلم يجدوا مصرفا . وقد قام عمر لما جمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان ( نعمت البدعة هذه ) .
وقد قيل : إنهم ابتدئوا الرهبانية للانقطاع عن جماعات الشرك من اليونان والروم وعن بطش اليهود وظاهر أن ذلك طلب رضوان الله كما حكى الله عن أصحاب الكهف ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا الكهف ) . وفي الحديث " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " وعليه فيكون التزوج عارضا اقتضاه الانقطاع عن المدن والجماعات فظنه الذين جاءوا من بعدهم أصلا من أصول الرهبانية .
وأما ترك المسيح التزوج فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله وليس ترك التزوج من شؤون النبوءة فقد كان لجميع الأنبياء أزواج قال تعالى ( وجعلنا لهم أزواجا وذرية ) .
وقيل : إن ابتداعهم الرهبانية بأنهم نذروا لله وكان الانقطاع عن اللذائذ وإعنات النفس من وجود التقرب في بعض الشرائع الماضية بقيت إلى أن بطلها الإسلام في حديث النذر في الموطأ " أن رسول الله A رأي رجلا قاما في الشمس صامتا فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يتكلم أو لا يستظل وأن يصوم يومه فقال : مروه فليتكلم وليستظل وليتم إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني " . وقد مضى في سورة مريم قوله تعالى ( فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلم أكلم اليوم إنسيا ) ولا تنافي بين القولين لأن أسباب الرهبانية قد تعددت باختلاف الأديان .
A E