والإنجيل : بكسر الهمزة وفتحها معرب تقدم بيانه أول سورة عمران . ومعنى جعل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرهم أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسره عليهم .
ذلك أن عيسى بعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة قال تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي الحجارة أو أشد قسوة ) في سورة البقرة .
والرأفة : الرحمة المتعلقة بدفع الأذى والضر فهي رحمة خاصة وتقدمت في قوله تعالى ( أن الله بالناس لرؤوف رحيم ) في سورة البقرة وفي قوله ( ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله ) في سورة النور .
والرحمة : العطف والملاينة وتقدمت في أول سورة الفاتحة .
فعطف الرحمة على الرأفة من عطف العام على الخالص لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها .
والرهبانية : اسم للحالة التي يكون الراهب متصفا بها في غالب شؤون دينه فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس لأن قياس النسب إلى الراهب الراهبية والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة كما زيدت في قولهم : شعراني لكثير الشعر ولحياني لعظيم اللحية وروحاني ونصراني .
وجعل في الكشاف النون جائية من وصف رهبان مثل نون خشيان من خشي والمبالغة هي هي إلا أنها مبالغة في الوصف لا في شدة النسبة .
والهاء هاء تأنيث بتأويل الاسم بالحالة وجعل في الكشاف الهاء للمرة .
وأما اسم الراهب التي نسبت إليه الرهبانية فهو وصف عومل معاملة الاسم وهو العابد من النصراني المنقطع للعبادة وهو وصف مشتق من الرهب : أي الخوف لأنه شديد الخوف من غضب الله تعالى أو مخالفة دين النصرانية . ويلزم هذه الحالة في عرف النصارى العزلة عن الناس تجنبا لما يشغل عن العبادة وذلك بكنى الصوامع والأديرة وترك التزوج تجنبا للشواغل وربما أوجبت بعض طوائف الرهبان على الراهب ترك التزوج غلوا في الدين .
وجعل في الكشاف : الرهبانية مشتقة في الرهب أي الخوف من الجبابرة أي الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام من اليهود وأن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعيسى فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل فخافوا أن يفتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية وهي ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين اه .
وأول ما ظهر اضطهاد أتباع المسيح في البلاد اليهودية فلما تفرع أتباع المسيح وأتباعهم في البلدان ناواهم أهل الإشراك والوثنية في الروم حيث حلوا من البلاد التابعة لهم فحدثت فيهم أحوال من التقنية هي التي دعاها صاحب الكشاف بمقاتلة الجبابرة .
فالراهب يمتنع من التزوج خفية أن تشغله زوجه عن عبادته ويمتنع من مخالطة الأصحاب خشية أن يلهوا عن العبادة ويترك لذائد المآكل والملابس خشية أن يقع في اكتساب المال الحرام وأنهم أرادوا التشبيه بعيسى عليه السلام في الزهد في الدنيا وترك التزوج فلذلك قال الله تعالى ( ابتدعوها ) أي أحدثوها فإن الابتداع الإتيان بالبدعة والبدع وهو ما لم 0يكن معروفا أي أحدثوها بعد رسولهم فإن البدعة ما كان محدثا بعد صاحب الشريعة .
ونصب ( رهبانية ) على طريقة الاشتغال . والتقدير وابتدعوا رهبانية ( وليس معطوفا على رأفة ورحمة ) لأن هذه الرهبانية لم تكن مما شرع الله لهم فلا يستقيم كونها مفعولا ل ( جعلنا ) ولأن الرهبانية عمل لا يتعلق بالقلوب وفعل ( جعلنا ) مقيد ب ( في قلوب الذين اتبعوه ) فتكون مفعولاته مقيدة بذلك إلا أن يتأول جعلها في القلوب بجعل حبها كقوله تعالى ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) . .
وعلى اختيار هذا الإعراب مضى المحققون مثل أبي علي الفارسي والزجاج والزمخشري والقرطبي . وجوز الزمخشري أن يكون عطفا على ( رأفة رحمة ) . واتهم أبن عطية هذا الإعراب بأنه إعراب المعتزلة فقال : " والمعتزلة تعرب " رهبانية " أنها نصب بإضمار فعل يفسره ( ابتدعوها ) ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على هذا " اه . وليس في هذا الإعراب حجة لهم ولا في إبطاله نفع لمخالفتهم كما علمت .
A E وإنما عطفت هذه الجملة على جملة ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ) لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفصائل المراد بها رضوان الله