وعن ابن مسعود " أن الكفار : الزراع جمع كافر وهو الزارع لأنه يكفر الزريع بتراب الأرض والكفر بفتح الكاف الستر أي ستر الزريعة وإنما أوثر هذا الاسم هنا وقد قال تعالى في سورة الفتح ( يعجب الزراع ) قصدا هنا للتورية بالكفار الذين هم الكافرون بالله لأنهم أشد إعجابا بمتاع الدنيا إذ لا أمل لهم في شيء بعده . وقال جمع من المفسرين : الكفار جمع الكافر بالله لأنهم قصروا إعجابهم على الأعمال ذات الغايات الدنيا دون الأعمال الدينية فذكر الكفار تلويح إلى أن المثل مسوق إلى جانبهم أولا .
والنبات : اسم مصدر نبت قال تعالى ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) وهو هنا أطلق على النابت من أشواق المصدر على الفاعل وهو كثير وأصله أن يراد به المبالغة وقد يشيع فيزول قصد المبالغة به .
وقوله ( ثم يهيج ) تضافرت كلمات المفسرين على تفسير يهيج ب " ييبس " أو يجف ولم يستظهروا بشاهد من كلام العرب يدل على أن من معاني الهياج الجفاف وقد قال الراغب : يقال : هاج الجمل إذا اصفر وطاب وفي الأساس : من المجاز هاج البقل إذا أخذ في اليبس . وهذان الإمامان لم يجعلا " هاج " بمعنى " يبس " كيف لفظ الآية ( ثم يهيج فتراه مصفرا ) فالوجه أن الهياج : الغلظ ومقاربة اليبس لأن مادة الهياج تدل على الاضطراب والثوران وسميت الحرب الهيجاء وقال النابغة : .
" أهاجك من سعداك مغنى المعاهد والزرع إذا غلظ يكون بحركته صوت فكأنه هائج أي ثائر وذلك ابتداء جفافه وذلك كقوله تعالى ( كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ) في سورة الفتح .
وعطفت جملة ( يهيج ) ب ( ثم ) لإفادة التراخي الرتبي لأن اصفرار النبات أعظم دلالة على التهيؤ للزوال وهذا هو الأهم في مقام التزهيد في متاع الدنيا .
وعطف ( فتراه مصفرا ) بالفاء لأن اصفرار النبت مقارب ليبسه وعطف ( ثم يكون حطاما ) ب ( ثم ) كعطف ( ثم يهج ) .
والحطام : بضم الحاء ما حطم أي كسر قطعا .
فضرب مثل الحياة الدنيا لأطوار ما فيها من شباب وكهولة وهرم ففناء ومن جده وتبذل وبلى ومن إقبال الأمور في زمن إقبالها ثم أدبارها بعد ذلك بأطوار الزرع . وكلها أعراض زائلة وآخرها فناء .
وتندرج فيها أطوار المرء في الحياة المذكورة في قوله ( لعب ولهو ) إلى ( والأولاد ) كما يظهر بالتأمل .
وهذا التمثيل مع كونه تشبيه هيئة مركبة بهيئة مثلها هو صالح للتفريق ومقابلة أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها فيشبه أول أطوار الحياة وإقبالها بالنبات عقب المطر ويشبه الناس المنتفعون بإقبال الدنيا بناس زراع ويشبه اكتمال أحوال الحياة وقوة الكهولة بهياج الزرع ويشبه ابتداء الشخوخة ثم الهرم وابتداء ضعف عمل العامل وتجارة التاجر وفلاحة الفلاح باصفرار الزرع وتهيئة للفناء ويشبه زوال ما كان للمرء من قوة ومال بتحطم الزرع .
ويفهم من هذا أن ما كان من أحوال الحياة مقصودا لوجه الله فإنه من شؤون الآخرة فلا يدخل تحت هذا التمثيل إلا ظاهرا . فأعمال البر ودراسة العلم ونحو ذلك لا يعتريها نقص ما دام صاحبها مقبلا عليها وبعضها يزداد نماء بطول المدة وتقدم نظير هذه الآية في سورة الزمر .
( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ 20 ] ) A E كان ذكر حال الحياة الدنيا مقتضيا ذكر مقابلة على عادة القرآن والخبر مستعمل في التحذير والتحريض بقرينة السياق ولذلك لم يبين أصحاب العذاب وأصحاب المغفرة والرضوان لظهور ذلك .
وكني عن النعيم بمغفرة من الله ورضوان لأن النعيم قسمان مادي وروحاني فالمغفرة والرضوان أصل النعيم الروحاني كما قال تعالى ( ورضوان من الله أكبر ) وهما يقتضيان النعيم الجسماني لأن أهل الجنة لما ركبت ذواتهم من أجسام وأودعت فيها الأرواح كان النعيمان مناسبين لهم تكثيرا للذات وما لذة الأجسام إلا صائرة إلى الأرواح لأنها المدركة اللذات وكان رضوان الله يقتضي إعطائهم منتهى ما به التذاذهم ومغفرته مقتضية الصفح عما قد يعوق عن بعض ذلك .
وعطف ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) على ( وفي الآخرة عذاب شديد ) للمقابلة بين الحالين زيادة في الترغيب والتنفير .
والكلام على تقدير مضاف أي وما أحوال الدنيا إلا متاع الغرور