والمعنى : أن كثيرا منهم تجاوزوا ذلك الحد من قسوة القلوب فنبذوا دينهم وبدلوا كتابهم وحروفه وأفسدوا عقائدهم فبلغوا حد الكفر . فالفسق هنا مراد به الكفر كقوله تعالى ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا من قبل وأن أكثرهم فاسقون ) أي غير مؤمنين بدليل المقابلة بقوله ( آمنا بالله ) إلى آخره .
وبين قوله ( فقست ) وقوله ( فاسقون ) محسن الجناس . وهذا النوع فيه مركب مما يسمى جناس القلب وما يسمى الجناس الناقص وقد اجتمعا في هذه الآية .
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) أعقب التحريض على الصدقات والإنفاق بالإشارة إلى دحض سبب الشح أنه الحرص على استبقاء المال لإنفاقه في لذائذ الحياة الدنيا فضرب لهم مثل الحياة الدنيا بحال محقرة على أنها زائلة تحقيرا لحاصلها وتزهيدا فيها لأن التعلق بها يعوق عن الفلاح قال تعالى ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) وقال ( وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) .
كل ذلك في سياق الحث على الإنفاق الواجب وغيره وأشير إلى أنها ينبغي أن تتخذ الحياة وسيلة بنعيم الدائم في الآخرة ووقاية من العذاب الشديد وما عدا ذلك من أحوال الحياة فهو متاع قليل ولذلك أعقب مثل الحياة الدنيا بالإخبار عن الآخرة بقوله ( وفي الآخرة عذاب ) الخ .
وافتتاح هذا بقوله تعالى ( اعلموا ) للوجه الذي بيناه آنفا في قوله ( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها ) .
و ( أنما ) المفتوحة الهمزة أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة في إفادة الحصر وحصر الحياة الدنيا في الأخبار الجارية عليها وهو أقصر أحوال الناس في الحياة على هذه الأمور الستة باعتبار غالب الناس فهو قصر ادعائي بالنظر إلى ما تنصرف إليهم همم غالب الناس من شؤون الحياة الدنيا والتي إن سلم بعضهم من بعضها لا يخلو من ملابسة بعض آخر إلا الذين عصمهم الله تعالى فجعل أعمالهم في الحياة كلها لوجه الله وإلا فإن الحياة قد يكون فيها أعمال التقى والمنافع والإحسان والتأييد للحق وتعليم الفضائل وتشريع القوانين .
وقد ذكر هنا من شؤون الحياة ما هو الغالب على الناس وما لا يخلو من مفارقة تضييع الغايات الشريفة أو اقتحام مساو ذميمة وهي أصول أحوال المجتمع في الحياة وهي أيضا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم فإن اللعب طور سن الطفولة والصبا واللهو طور الشباب والزينة طور الفتوة والتفاخر طور الكهولة والتكاثر طور الشيخوخة . وذكر هنا خمسة أشياء .
فاللعب : اسم لقول أو فعل يراد به المزاح والهزل لتمضية الوقت أو إزالة وحشة الوحدة أو السكون أو السكوت أو لجلب فرح ومسرة للنفس أو يجلب مثل ذلك للحبيب أو يجلب ضده للبغيض كإعمال الأعضاء وتحريكها دفعا لوحشة السكون والهذيان المقصود لدفع وحشة السكوت ومنه البعث وكالمزاح مع المرأة لاجتلاب إقبالها ومع الطفل تحببا أو إرضاء له .
A E واللعب : هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها . والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل ولذلك قال قوم إبراهيم له ( أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) . واللعب يكثر في أحوال الناس في الدنيا فهو جزء عظيم من أحوالها وحسبك أنه يعمر معظم أحوال الصبا .
واللهو : اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس به وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد يقال : لها عن الشيء أي تشاغل عنه . قال امرؤ القيس : .
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل وقال النابغة يذكر حجه : .
حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدن قد عزما ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب