وضمن ( ضرب ) في الآية معنى الحجز فعدي بالباء أي ضرب بينهم سور للحجز به بين المنافقين والمؤمنين خلقه الله ساعتئذ قطعا لأطماعهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون فحق بذلك التمثيل الذي مثل الله به حالهم في الدنيا بقوله ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) في سورة البقرة . وأن الحيرة وعدم رؤية لمصير عذاب أليم .
ولعل ضرب السور بينهم وجعل العذاب بظاهره والنعيم بباطنه قصد منه التمثيل لهم بأن الفاصل بين النعيم والعذاب هو العمال في الدنيا وأن الأعمال التي يعملها الناس في الدنيا منها ما يفضي بعامله إلى النعيم ومنها ما يفضي بصاحبه إلى العذاب فأحد طرفي السور مثال لأحد العملين وطرفه الآخر مثال لضده . و ( الباب ) واحد وهو الموت وهو الذي يسلك بالناس إلى أحد الجانبين .
ولعل جعل الباب في سور واحد فيه مع ذلك ليمر منه أفواج المؤمنين الخالصين من وجود منافقين بينهم بمرأى من المنافقين لمحبوسين وراء ذلك السور تنكيلا بهم وحسرة حين يشاهدون أفواج المؤمنين يفتح لهم الباب الذي في السور ليجتازوا منه إلى النعيم الذي بباطن السور .
وركب القصاصون على هذه الآية تأويلات موضوعة في فضائل بلاد القدس بفلسطين عزوها إلى كعب الأحبار فسموا بعض أبواب مدينة القدس باب الرحمة وسموا مكانا منها وادي جهنم وهو خارج سور بلاد القدس ثم ركبوا تأويل الآية عليها وهي أوهام على أوهام .
واعلم أن هذه السور المذكورة في هذه الآية غير الحجاب الذي ذكر في سورة الأعراف .
وضمائر ( له باب ) و ( باطنه ) و ( ظاهره ) عائد إلى السور والجملتان صفتان ل ( سور ) . وإنما عطفت الجملة الثالثة بالواو لأن المقصود من الصفة مجموع الجملتين المتعاطفتين كقوله تعالى ( ثيبات وأبكارا ) .
والباطن : هو داخل الشيء والظاهر : خارجه .
فالباطن : هو داخل السور الحاجز بين المسلمين والمنافقين وهو مكان المسلمين .
والبطون والظهور هنا نسبيان أي باعتبار مكان المسلمين ومكان المنافقين فالظاهر هو الجهة التي نحو المنافقين أي ضرب بينهم بسور بشاهد من المنافقون العذاب من ظاهره الذي يواجههم وأن الرحمة وراء ما يليهم .
A E و ( قبل ) بكسر ففتح الجهة المقابلة وقوله ( من قبله ) خبر مقدم و ( العذاب ) مبتدأ والجملة برمتها خبر عن ( ظاهره ) .
و ( من ) بمعنى ( في ) كالتي في قوله تعالى ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ) فتكون نظير قوله ( باطنه فيه الرحمة ) .
والعذاب : هو حرق جهنم فإن جهنم دار عذاب قال تعالى ( إن عذابها كان غراما ) .
وجملة ( ينادونهم ) حال من ( يقول المنافقون والمنافقات ) .
وضمائر ( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ) تعرف مراجعها مما تقدم من قوله ( يوم يقول المنافقون والمنافقات ) الآية .
و ( ألم نكن معكم ) استفهام تقريري استعمل كناية عن طلب اللحاق بهم والانضمام إليهم كما كانوا معهم في الدنيا يعملون أعمال الإسلام من المسلمين .
والمعية أطلقت على المشاركة في أعمال الإسلام من نطق بكلمة الإسلام وإقامة عبادات الإسلام توهموا أن المعاملة في الآخرة تجري كما تجري المعاملة في الدنيا على حسب صور العمال وما دروا أن الصور مكملات وان قوامها إخلاص الإيمان وهذا الجواب إقرار بأن المنافقين كانوا يعملون أعمالهم معهم .
ولما كان هذا الإقرار يوهم أنه قول بموجب الاستفهام التقريري أعقبوا جوابهم الإقراري بالاستدراك الرافع لما توهمه المنافقون من أن الموافقة للمؤمنين في أعمال الإسلام تكفي في التحاقهم بهم في نعيم الجنة فبينوا لهم أسباب التباعد بينهم بأن باطنهم كان مخلفا لظاهرهم .
وذكروا لهم أربعة أصول هي أسباب الخسران وهي : فتنة أنفسهم والتربص بالمؤمنين والارتياب في صدق الرسول A والاغترار بما تموه إليهم أنفسهم .
وهذه الأربعة هي أصول الخصال المتفرعة على النفاق .
الأول : فتنتهم أنفسهم أي عدم قرار ضمائرهم على الإسلام فهم في ريبهم يترددون فكأن الاضطراب وعدم الاستقرار خلق لهم فإذا خطرت في أنفسهم خواطر خير من إيمان ومحبة للمؤمنين نقضوها بخواطر الكفر والبغضاء وهذا من صنع أنفسهم فإسناد الفتن إليهم إسناد حقيقي وكذلك الحال في أعمالهم من صلاة وصدقة