استئناف ثالث انتقل به الخطاب إلى المؤمنين فهذه الآية يظهر أنها مبدأ الآيات المدنية في هذه السورة ويزيد ذلك وضوحا عطف على قوله ( وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ) الآيات كما سيأتي قريبا .
والخطاب هنا وإن كان صالحا لتقرير ما أفادته جملة ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ) ولكن أسلوب النظم وما عطف على هذه الجملة يقتضيان أن تكون استئنافا انتقاليا هو من حسن التخلص إلى خطاب المسلمين ولا تفوته الدلالة على تقرير ما قبله لأن التقرير يحصل من انتساب المعنيين : معنى الجملة السابقة ومعنى هذه الجملة الموالية .
فهذه الجملة بموقعها ومعناها وعلتها وما عطف عليها أفادت بيانا وتأكيدا وتعليلا وتذييلا وتخلصا لغرض جديد وهي أغراض جمعتها جمعا بلغ حد الإعجاز في الإيجاز مع أن كل جملة منها مستقلة بمعنى عظيم من الاستدلال والتذكير والإرشاد والامتنان .
والرؤوف : من أمثلة المبالغة في الاتصال بالرأفة وهي كراهية إصابة الغير بضر .
والرحيم : من الرحمة وهي محبة إيصال الخير إلى الغير .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ( لرؤوف ) بواو بعد الهمزة على اللغة المشهورة . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بدون واو بعد الهمزة وهي لغة ولعلها تخفيف قال جرير : .
يرى للمسلمين عليه حقا ... كفعل الوالد الرؤوف الرحيم وتأكيد الخبر ب ( إن ) واللام في قوله ( وإن الله بكم لرؤوف رحيم ) لأن المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام قد حسبوها إساءة لهم ولآبائهم وآلهتهم فقد قالوا ( أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) . وهذا يرجح أن قوله تعالى ( آمنوا بالله ورسوله ) إلى هنا مكي . فإن كانت الآية مدنية فلأن المنافقين كانوا على تلك الحالة .
A E ( وما لكم لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ) الإنفاق في سبيل الله بمعناه المشهور وهو الإنفاق في عتاد الجهاد لم يكن إلا بعد الهجرة فإن سبيل الله غلب في القرآن إطلاقه على الجهاد ويؤيده قوله عقبه ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ) لأن الأصل أن يكون ذلك متصلا نزوله مع هذا ولو حمل الإنفاق على معنى الصدقات لكان مقتضيا أمه مدنية لأن الإنفاق بهذا المعنى لا يطلق إلا على الصدقة على المؤمنين فلا يلام المشركون على تركه .
وعليه فالخطاب موجه للمؤمنين فقد أعيد الخطاب بلون غير الذي ابتدئ به .
ومن لطائفه أنه موجه إلى المنافقين الذين ظاهرهم أنهم مسلمون وهم في الباطن مشركون فهم الذين شحوا بالإنفاق .
ووجه إلحاق هذه الآية وهي مدنية بالمكي من السورة مناسبة استيعاب أحوال الممسكين عن الإنفاق من الكفار والمؤمنين تعريضا بالتحذير من خصال أهل الكفر إذ قد سبقها قوله ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه .
و ( ما ) استفهامية مستعملة في اللوم والتوبيخ على عدم إنفاقهم في سبيل الله .
و ( أن ) مصدرية والمصدر المنسبك منها والفعل المنصوب بها في محل جر باللام أو ب ( في ) محذوف والتقدير : ما حصل لكم في عدم إنفاقكم أي ذلك الحاصل أمر منكر .
وعن الأخفش أن ( أن ) زائدة فيكون بمنزلة قوله ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) . وليس نصبها الفعل الذي بعدها بمانع من اعتبارها زائدة لأن الحرف الزائد قد يعمل مثل حرف الجر الزائد وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى ( قالوا وما لنا لا نقاتل في سبيل الله ) في سورة البقرة .
والواو في ( ولله ميراث السماوات والأرض ) واو الحال وهو حال من ضمير ( تنفقوا ) باعتبار أن عموم السماوات والأرض يشمل ما فيهما فيشمل المخاطبين فذلك العموم هو الرابط . والتقدير : لله ميراث ما في السماوات والأرض ويشمل ميراثه إياكم .
والمعنى : إنكار عدم إنفاق أموالهم فيما دعاهم الله إلى الإنفاق فيه وهم سيهلكون ويتركون أموالهم لمن قدر الله مصيرها إليه فلو أنفقوا بعض أموالهم فيما أمرهم الله لنالوا رضى الله وانتفعوا بمال هو صائر إلى من يرثهم .
وإضافة ميراث إلى السماوات والأرض من إضافة المصدر إلى المفعول وهو على حذف مضاف تقديره : أهلها وليس المراد ميراث ذات السماوات والأرض لأن ذلك إنما يحصل بعد انقراض الناس فلا يؤثر في المقصود من حثهم على الإنفاق