ويجوز أن أمرا لمن في نفوسهم بقية نفاق أو ارتياب وأنهم قبضوا أيديهم عن تجهيز جيش العسرة كما قال تعالى ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) إلى قوله ( ويقبضون أيديهم ) فهم إذا سمعوا الخطاب علموا أنهم المقصود على نحو ما في آيات سورة براءة ولكن يظهر أن سنة غزوة تبوك لم يبق عندها من المنافقين عدد يعتد به فيوجه إليه خطاب كهذا .
وجيء بالموصول في قوله ( مما جعلكم مستخلفين فيه ) دون أن يقول ( وأنفقوا من أموالكم أو مما رزقكم الله ) لما في صلة الموصول من التنبيه على غفلة السامعين عن كون المال لله جعل الناس كالخلائف عنه في التصرف فيه مدة ما فلما أمرهم بالإنفاق منها على عباده كان حقا عليهم أن يمتثلوا لذلك كما يتمثل الخازن أمر صاحب المال إذا أمره بإنفاذ شيء منه إلى من يعينه .
والسين والتاء في ( مستخلفين ) للمبالغة في حصول الفعل لا للطلب لاستفادة الطلب من فعل ( جعلكم ) . ويجوز أن تكون لتأكيد الطلب .
والفاء في قوله ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ) تفريع وتسبب على الأمر بالإيمان والإنفاق لإفادة تعليله كأنه قيل لأن الذين آمنوا وأنفقوا أعددنا لهم أجرا كبيرا .
والمعنى على وجه كون الآية مكية : أن الذين آمنوا من بينكم وأنفقوا أي سبقوكم بالإيمان والإنفاق لهم أجر كبير أي فاغتنموه وتداركوا ما فاتوكم به .
و ( من ) للتبعيض أي الذين آمنوا وهم بعض قومكم .
ويجوز أن يكون فعلا المضي في قوله ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا ) مستعملان في معنى المضارع للتنبيه على إيقاع ذلك .
( ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ) A E ظاهر استعمال أمثال قوله ( وما لكم لا تؤمنون ) أن يكون استفهاما مستعملا في التوبيخ والتعجيب وهو الذي يناسب كون الأمر في قوله ( آمنوا بالله ورسوله ) مستعملا في الطلب لا في الدوام .
وتكون جملة ( لا تؤمنون ) حالا من الضمير المستتر في الكون المتعلق به الجار والمجرور كما تقول : ما لك قائما ؟ بمعنى ما تحصل في حالة القيام . والتقدير : وما لكم كافرين بالله أي ما حصل لكم في حالة عدم الإيمان .
وجملة ( والرسول يدعوكم ) حال ثانية والواو واو الحال لا العطف فهما حالان متداخلان . والمعنى : ماذا يمنعكم من الإيمان وقد بين لكم الرسول من آيات القرآن ما فيه بلاغ وحجة على أن الإيمان بالله حق فلا عذر لكم في عدم الإيمان بالله فقد جاءتكم بينات أحقيته فتعين أن إصراركم على عدم الإيمان مكابرة وعناد .
وعلى هذا الوجه فالميثاق المأخوذ عليهم هو ميثاق من الله أي ما يماثل الميثاق من إيداع الإيمان بوجود الله وبوحدانيته في الفطرة البشرية فكأنه ميثاق قد أخذ على كل واحد من الناس في الأزل وشرط التكوين فهو ناموسي فطري . وهذا إشارة إلى قوله تعالى ( وقد أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) وقد تقدم في سورة الأعراف .
فضمير ( أخذ ) عائد إلى اسم الجلالة في قوله ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) والمعنى : أن النفوس لو خلت عن العناد وعن التمويه وعن التضليل كانت منساقة إلى إدراك وجود الصانع ووحدانيته وقد جاءهم من دعوة الرسول A ما يكشف عنهم ما غشى على إدراكهم من دعاء أئمة الكفر والضلال .
وجملة ( إن كنتم مؤمنين ) مستأنفة وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله ( والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم ) .
واسم الفاعل في قوله ( إن كنتم مؤمنين ) مستعمل في المستقبل بقرينة وقوعه في سياق الشرط أي فقد حصل ما يقتضي أن تؤمنوا من السبب الظاهر والسبب الخفي المرتكز في الجبلة .
ويرجح هذا المعنى أن ظاهر الأمر في قوله ( آمنوا بالله ورسوله ) أنه لطلب إيجاد الإيمان كما تقدم في تفسيرها وأن الآية مكية .
وقرأ الجمهور ( أخذ ) بالباء للفاعل ونصب ( ميثاقكم ) على أن الضمير عائد إلى اسم الجلالة وقرأه أبو عمرو ( أخذ ) بالبناء للنائب ورفع ( ميثاقكم ) .
( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم [ 9 ] )