فتقدير المعنى والآخر في ذلك أي في استمرار الوجود الذي تقرر بوصفه بأنه الأول . وليس في هذا إشعار بأنه زائل ينتابه العدم إذ لا يشعر وصف الآخر بالزوال لا مطابقة ولا التزاما وهذا هو صفة البقاء في اصطلاح المتكلمين . فآل معنى ( الآخر ) إلى معنى " الباقي " وإنما أوثر وصف ( الآخر ) بالذكر أنه مقتضى البلاغة ليتم الطباق بين الوصفين المتضادين وقد علم عند المتكلمين أن البقاء غير مختص بالله تعالى وأنه لا ينافي الحدوث على خلاف في تعيين الحوادث الباقية بخلاف وصف القدم بأنه مختص بالله تعالى ومتناف مع الحدوث .
واعلم أن في قوله ( هو الأول والآخر ) دلالة قصر من طريق تعريف جزئي الجملة .
فأما قصر الأولية على الله تعالى في صفة الوجود فظاهر وأما قصر الآخرية عليه في ذلك وهو معنى البقاء فإن أريد به البقاء في العالم الدنيوي عرض إشكال المتعارض بما ورد من بقاء الأرواح وحديث " أن عجب الذنب لا يفنى وأن الإنسان منه يعاد " . ورفع هذا الإشكال أن يجعل القصر ادعائيا لعدم الاعتداد ببقاء غيره تعالى لأنه بقاء غير واجب بل هو بجعل الله تعالى .
والجمع بين وصفي ( الأول والآخر ) فيه محسن الطباق .
A E و ( الظاهر ) الأرجح أنه مشتق من الظهور الذي هو ضد الخفاء فيكون وصفه تعالى به مجازا عقليا فإن إسناد الظهور في الحقيقة هو ظهور أدلة صفاته الذاتية لأهل النظر والاستدلال والتدبر في آيات العالم فيكون الوصف جامعا لصفته النفسية وهي الوجود إذ أدلة وجوده بينة واضحة ولصفاته الأخرى مما دل عليها فعلة من قدرة وعلم وحياة وإرادة وصفات الأفعال من الخلق والرزق والإحياء والإماتة كما علمت في قوله ( هو الأول ) عن النقص أو ما دل عليها تنزيهه عن النقص كصفة الوحدانية والقدم والبقاء والغنى المطلق ومخالفة الحوادث وهذا المعنى هو الذي يناسبه المقابلة بالباطل .
ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور أي الغلبة كالذي في قوله تعالى ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجمونكم ) فمعنى وصفه تعالى ب ( الظاهر ) أنه الغالب .
وهذا لا يناسب مقابلته ب ( الباطن ) إلا على اعتبار محسن الإيهام وما وقع في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم من قول رسول الله A " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء " فمعنى فاء التفريع فيه أن ظهوره تعالى سبب في انتفاء أن يكون شيء فوق الله في الظهور أي في دلالة الأدلة على وجوده واتصافه بصفات الكمال فدلالة الفاء تفريع لا تفسير .
و ( الباطن ) الخفي يقال : بطن إذا خفي ومصدره بطون .
ومعنى وصفه تعالى بباطن وصف ذاته وكنهه لأنه محجوب عن دراك الحواس الظاهرة قال تعالى ( لا تدركه الأبصار ) .
والقصر في قوله ( الظاهر والباطن ) قصر ادعائي لأن ظهور الله تعالى بالمعنيين ظهور لا يدانيه ظهور غيره وبطونه تعالى لا يشبهه بطون الأشياء الخفية إذ لا مطمع لأحد في إدراك ذاته ولا في معرفة تفاصيل تصرفاته .
والجمع بين وصفه ب ( الظاهر ) بالمعنى الراجح و ( الباطن ) كالجمع بين وصفه ب ( الأول والآخر ) كما علمته آنفا . وفي الجمع بينهما محسن مطابقة .
وفائدة إجراء الوصفين المتضادين على اسم الله تعالى هنا التنبيه على عظم شأن الله تعالى ليتدبر العالمون في مواقعها واعلم أن الواوات الثلاثة الواقعة بين هذه الصفات الأربع متحدة المعنى تقتضي كل واحدة منها عطف صفة .
وقال الزمخشري : " الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأولية والآخرية . والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين " اه . وهو التشبث لا داعي إليه ولا دليل عليه ولو أريد ذلك لقال : هو الأول الآخر والظاهر الباطن بحذف واوين . والمعنى الذي حاوله الزمخشري : تقتضيه معاني هاته الصفات بدون اختلاف معاني الواوات .
( وهو بكل شيء عليم [ 3 ] ) عطف على جملة ( هو الأول والآخر ) الخ عطفت صفة علمه على صفة ذاته وتقدم نظير هذه الجملة في أوائل سورة البقرة .
( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش )