وجملة ( وهو على كل شيء قدير ) تفيد مفاد التذييل لجملة ( يحيي ويميت ) لتعميم ما دل عليه قوله ( يحيي ويميت ) من بيان جملة ( له ملك السماوات والأرض ) وإنما عطفت بالواو وكان حق التذييل أن يكون مفصولا لقصد إيثار الإخبار عن الله تعالى بعموم القدرة على كل موجود وذلك لا يفيت قصد التذييل لأن التذييل يحصل بالمعنى .
( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) استئناف في سياق تبيين أن له ملك السماوات والأرض بأن ملكه دائم في عموم الأزمان وتصرف فيهما في كل الأحوال إذ هو الأول الأزلي وأنه مستمر من قبل وجود كل محدث ومن بعد فنائه إذ الله هو الباقي بعد فناء ما في السماوات والأرض وذلك يظهر من دلالة الآثار على المؤثر فإن دلائل تصرفه ظاهرة للمتبصر بالعقل وهو معنى ( الظاهر ) كما يأتي وأن كيفيات تصرفاته محجوبة عن الحس وذلك معنى ( الباطن ) تعالى كما سيأتي .
فضمير ( هو ) ليس ضمير فصل ولكنه ضمير يعبر اسم الجلالة لاعتبارنا الجملة مستأنفة ولو جعلته ضمير فصل لكانت أوصاف ( الأول والآخر والظاهر والباطن ) أخبار عن ضمير ( وهو العزيز الحكيم ) .
وقد اشتملت هذه الجملة على أربعة أخبار هي صفات لله تعالى .
A E فأما وصف ( الأول ) فأصل معناه الذي حصل قبل غيره في حالة تبينها إضافة هذا الوصف إلى ما يدل على الحالة من زمان أو مكان فقد يقع مع وصف ( أول ) لفظ يدل على الحالة التي كان فيها السبق وقد يستدل على تلك الحالة من سياق الكلام فوصف ( الأول ) لا يتبين معناه إلا بما يتصل به من الكلام ولا يتصور إلا بالنسبة إلى موصوف آخر وهو متأخر عن الموصوف ب ( أول ) في حالة ما .
فقول امرئ القيس : .
" ومهلهل الشعراء ذاك الأول يفيد أن مهلهل سابق غيره من الشعراء في الشعر وقوله تعالى ( قل أي أمرت أن أكون أول من أسلم ) أي أولهم في أتباع الإسلام وقوله ( ولا تكونوا أول كافر به ) أي أولهم كفرا وقوله ( وقالت أولاهم لأخراهم ) أي أولاهم في الدخول إلى النار .
وأشهر معاني الأولية هو السبق في الموجود أي في ضد العدم ألا ترى أن جميع الأحوال التي يسبق صاحبها غيره فيها هي وجودات من الكيفيات فوصف الله بأنه ( الأول ) معناه : أنه السابق وجوده على كل موجود وجد أو سيوجد دون تخصيص جنس ولا نوع ولا صنف ولكنه وصف نسبي غير ذاتي .
ولهذا لم يذكر لهذا الوصف متعلق " بكسر اللام " ولا ما يدل على متعلق لأن المقصود أنه الأول بدون تقييد .
ويرادف هذا الوصف في اصطلاح المتكلمين صفة ( القدم ) .
واعلم أن هذا الوصف يستلزم صفة الغنى المطلق وهي عدم الاحتياج إلى المخصص أي مخصص يخصصه بالوجود بدلا من العدم لأن الأول هنا معناه الموجود لذاته دون سبق عدم وعدم الاحتياج إلى محل يقوم به قيام العرض بالجوهر .
ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود لأنه لو كان غير الله واجبا وجوده لما كان الله موصوفا بالأولية فالموجودات غير الله ممكنة والممكن لا يتصف بالأولية المطلقة فلذلك تثبت له الوحدانية ثم هذه الأولية في الوجود تقتضي أن تثبت لله جميع صفات الكمال اقتضاء عقليا بطريق الالتزام البين بالمعنى الأعم " وهو الذي من تصور ملزومه وتصوره الجزم بالملازمة بينهما ) .
وأما وصف الآخر فهو ضد الأول فأصله : هو المسبوق بموصوف بصفة متحدث عنها في الكلام أو مشار إليها فيه بما يذكر من متعلق به أو تمييزه على نحو ما تقدم في قوله ( هو الأول ) كقوله تعالى ( حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ) أي أخراهم في الإدراك في النار وقول النبي A " آخر أهل الجنة دخولا الجنة... " الخ وقول الحريري في المقامة الثانية " وجلس في أخريات الناس " أي الجماعات الأخريات في الجلوس وهو وصف نسبي .
ووصف الله تعالى بأنه ( الآخر ) بعد وصفه بأنه ( الأول ) مع كون الوصفين متضادين يقتضي انفكاك جهة الأولية والآخرية فلما تقرر أن كونه الأول متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه ب ( الآخر ) متعلقا بانتقال ذلك الوجود أي هو الآخر بعد جميع الموجودات في السماء والأرض وهو معنى قوله تعالى ( يرث الأرض ومن عليها ) وقوله ( كل شيء هالك إلا وجهه )