وأصل تركيب هذه الجملة : فإذا كنتم صادقين في أنكم غير مدينين فلولا حاولتم عند كل محتضر إذا بلغت الروح الحلقوم أن ترجعوها إلى مواقعها من أجزاء جسده فما صرفكم عن محاولة ذلك إلا العلم الضروري بأن الروح ذاهبة لا محالة . فإذا علمت هذا اتضح لك انتظام الآية التي نظمت نظما بديعا من الإيجاز وأدمج في دليلها ما هو تكملة للإعجاز .
و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حض على فعله فقد أظهر عجزه والفعل المحضوض عليه هو ( ترجعونها ) أي تحاولون رجوعها .
و ( إذا بلغت ) ظرف متعلق ب ( ترجعونها ) مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه .
والضمير المستتر في ( بلغت ) عائد على مفهوم من العبارات لظهور أن التي تبلغ الحلقوم حذف إيجازا نحو قوله تعالى ( حتى توارت بالحجاب ) أي الشمس .
و ( ال ) في ( الحلقوم ) للعهد الجنسي .
وجملة ( وأنتم حينئذ تنظرون ) حال من ضمير ( بلغت ) ومفعول ( تنظرون ) محذوف تقديره : تنظرون صاحبها أي صاحب الروح بقرينة قوله بعده ( ونحن أقرب إليه ) وفائدة هذه الحال تحقيق أن الله صرفهم عن محاولة إرجاعها مع شدة أسفهم لموت الأعزة .
وجملة ( ونحن أقرب إليه منكم ) في موضع الحال من مفعول ( تنظرون ) المحذوف أو معترضة والواو اعتراضية .
وأيا ما كانت فهي احتراس لبيان أن ثمة حضورا أقرب من حضورهم عند المحتضر وهو حضور التصريف لأحواله الباطنة .
وقرب الله : قرب علم وقدرة على حد قوله ( وجاء ربك ) أو قرب ملائكته المرسلين لتنفيذ أمره في الحياة والموت على حد قوله ( ولقد جئناهم بكتاب ) أي جاءهم جبريل بكتاب قال تعالى ( حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ) .
وجملة ( ولكن لا تبصرون ) معترضة بين جملة ( ونحن أقرب إليه منكم ) وجملة ( فلولا أن كنتم غير مدينين ) وكلمة ( فلولا ) الثانية تأكيد لفظي لنظيرها السابق أعيد لتبنى عليه جملة ( ترجعونها ) لطول الفصل .
وجملة ( إن كنتم غير مدينين ) معترضة أو حال من الواو في ( ترجعونها ) .
وجواب شرط ( إن ) محذوف دل عليه فعل ( ترجعونها ) . قال ابن عطية : وقوله ( ترجعونها ) سد مسد الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضات و ( إذا ) من قوله ( فلولا إذا بلغت ) و ( إن ) المتكررة وحمل بعض القول بعضا إيجاز أو اقتضابات اه .
وجملة ( إن كنتم صادقين ) بيان لجملة ( إن كنتم غير مدينين ) وعلى التفسير الأول لمعنى ( مدينين ) يكون وجه إعادة هذا الشرط مع أنه مما استفيد من قوله ( إن كنتم غير مدينين ) هو الإيماء إلى فرض الشرط في قوله ( إن كنتم غير مدينين ) بالنسبة لما في نفس الأمر وأن الشرط في قوله ( إن كنتم صادقين ) هو فرض وتقدير لا وقوع له نفي البعث وعلى الوجه الثاني يرجع قوله ( إن كنتم صادقين ) إلى ما أفاده التحضيض وموقع فاء التفريع من إرادة أن قبض الأرواح لتأخيرها إلى يوم الجزاء أي إن كنتم صادقين في نفي البعث والجزاء .
وضمير التأنيث في قوله ( ترجعونها ) عائد إلى الروح الدال عليه التاء في قوله ( إذا بلغت الحلقوم ) .
ومعنى الاستدراك في ( ولكن لا تبصرون ) راجع إلى قوله ( ونحن أقرب إليه منكم ) لرفع توهم قائل : كيف يكون أقرب إلى المحتضر من العواد الحافين حوله وهم يرون شيئا غيرهم يتبع ذلك بأنهم محجوبون عن رؤية أمر الله تعالى .
وجملة ( ولكن لا تبصرون ) معترضة والواو اعتراضية . ومفعول ( تبصرون ) محذوف دل عليه قوله ( ونحن أقرب إليه ) .
ومعنى ( مدينين ) مجازين على أعمالكم . وعلى هذا المعنى حمله جمهور النتقدمين من المفسرين ابن عباس ومجاهد وجابر بن زيد والحسن وقتادة وعليه جمهور المفسرين من المتأخرين على الإجمال وفسره الفراء والزمخشري ( مدينين ) بمعنى : عبيد لله من قولهم : دان السلطان الرعية إذا ساسهم أي غير مربوبين وهو بعيد عن السياق .
واعلم أن قوله ( إن كنتم غير مدينين ) فرض وتقدير ف ( إن ) فيه بمنزلة " لو " أي لو كنتم غير مدينين أي غير مجزيين على الأعمال .
A E