والذي نحاه الفخر منحى آخر فجعل معنى ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) تكملة للإدهان الذي في قوله تعالى ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) فقال : " أي تخافون أنكم إن صدقتم بالقرآن ومنعتم ضعفاءكم من الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسول أي فيكون عطفا على ( تدهنون ) عطف فعل على اسم شبيه به وهو من قبيل عطف المفردات أي أنتم مدهنون وجاعلون رزقكم أنكم تكذبون فهذا التكذيب من الإدهان أي أنهم يعلمون صدق الرسول A ولكنهم يظهرون تكذيبه إبقاء على منافعهم فيكون كقوله تعالى ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . وعلى هذا يقدر قوله ( أنكم تكذبون ) مجرورا بباء الجر محذوفة والتقدير : وتجعلون رزقكم بأنكم تكذبون أي تجعلون عوضه بأنه تكذبوا بالبعث .
( فلولا إذا بلغت الحلقوم [ 83 ] وأنتم حينئذ تنظرون [ 84 ] ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون [ 85 ] فلولا إن كنتم غير مدينين [ 86 ] ترجعونها إن كنتم صادقين [ 87 ] ) مقتضى فاء التفريع أن الكلام الواقع بعدها ناشئ عما قبله على حسب ترتيبه وإذ قد كان الكلام السابق إقامة أدلة على أن الله قادر على إعادة الحياة للناس بعد الموت وأعقب ذلك بأن تلك الأدلة أيدت ما جاء في القرآن من إثبات البعث وأنحى عليهم أنهم وضحت لهم الحجة ولكنهم مكابرون فيها ومظهرون الجحود وهم موقنون في الباطل وكل ذلك راجع إلى الاستدلال بقوة قدرة الله على إيجاد موجودات لا تصل إليها مدارك الناس انتقل الكلام إلى الاستدلال على إثبات البعث بدليل لا محيص لهم عن الاعتراف بدلالته .
فالتفريع على جملة ( ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) وهو أن عجزهم عن إرجاع الروح عند مفارقتها الجسد ينبههم على أن تلك المفارقة مقدرة في نظام الخلقة وأنها الحكمة .
فمعنى الكلام قد أخبركم الله بأنه يجازي الناس على أفعالهم وذلك فهو محييهم بعد موتهم لإجراء الجزاء عليهم وقد دلكم على ذلك بانتزاع أرواحهم منهم قهرا فلو كان ما تزعمون من أنكم غير مجزيين بعد الموت لبقيت الأرواح في أجسادها إذ لا فائدة في انتزاعها منها بعد إيداعها فيها لولا حكمة نقلها إلى حياة ثانية ليجري جزاؤها على أفعالها في الحياة الأولى .
وهذا نظير الاستدلال على تفرد الله بالإلهية بأن في كينونة الموجودات دلائل خلقية على أنها مخلوقة لله تعالى وذلك قوله تعالى ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) . ومرجع هذا المعنى إلى أن هذا استدلال بمقتضى الحكمة الإلهية في حالة خلق الإنسان فإن إيداع الأرواح في الأجساد تصرف من تصرف الله تعالى وهو الحكيم فما نزع الأرواح من الأجساد بعد أن أودعها فيها مدة إلا لأن انتزاعها مقتضى الحكمة أن تنتزع وانحصر ذلك في أن يجري عليها الحساب على ما اكتسبته في مدة الحياة الدنيا .
وهذا كقوله تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) فالله تعالى جعل الحياة الدنيا والآجال مدد عمل وجعل الحياة الآخرة دار جزاء على الأعمال ولذلك أقام نظام الدنيا على قاعدة الانتهاء لآجال حياة الناس .
أما موت من كان قريبا من سن التكليف ومن دونه وموت العجماوات فذلك عارض تابع لإجزاء التكوين للأجساد الحية على نظام التكوين المتماثل وكذلك ما يعرض لها من عوارض مهلكة اقتضاها تعارض مقتضيات الإنظام وتكوين الأمزجة من صحة ومرض ومسالمة وعدوان .
A E فبقي الإشكال في جعل ( ترجعونها ) من جملة جواب شرط ( إن ) إذ لا يلزم من عدم قدرتهم على صد الأرواح عن الخروج أن يكون خروجها لإجراء الحساب .
ودفع هذا الإشكال وجوب تأويل ( ترجعونها ) بمعنى تحاولون إرجاعها أي عدم محاولتكم إرجاعها منذ العصور الأولى دليل على تسليمكم بعد إمكان إرجاعها وما ذلك إلا لوجوب خروجها من حياة الأعمال إلى حياة الجزاء