والتماري : التشكك وهو تفاعل من المرية فإن كان الخطاب بقوله ( ربك ) للنبي A كان ( تتمارى ) مطاوع ماراه مثل التدافع مطاوع دفع في قول المنخل : .
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير والمعنى : فبأي آلاء ربك يشككونك, وهذا ينظر إلى قوله تعالى ( أفتمارونه على ما يرى ) , أي لا يستطيعون أن يشككوك في حصول آلاء ربك التي هي نعم النبوة والتي منها رؤية جبريل عند سدرة المنتهى . فالكلام مسوق لتأييس المشركين من الطمع في الكف عنهم .
وإن كان الخطاب لغير معين كان ( تتمارى ) تفاعلا مستعملا في المبالغة في حصول الفعل, ولا يعرف فعل مجرد للمراء, وإنما يقال : امترى, إذا شك .
( هذا نذير من النذر الأولى [ 56 ] ) استئناف ابتدائي أو فذلكة لما تقدم على اختلاف الاعتبارين في مرجع اسم الإشارة فإن جعلت اسم الإشارة راجعا إلى القرآن فإنه لحضوره في الأذهان ينزل منزلة شيء محسوس حاضر بحيث يشار إليه, فالكلام انتقال اقتضابي تنهية لما قبله وابتداء لما بعد اسم الإشارة على أسلوب قوله تعالى ( هذا بلاغ للناس ) .
والكلام موجه إلأى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير, دون أن يقول : نذير وبشير, كما قال في الآية الأخرى ( إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) .
والإنذار بعضه صريح مثل قوله ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ) الخ, وبعضه تعريض كقوله ( وأنه أهلك عادا الأولى ) وقوله ( وأن إلى ربك المنتهى ) .
A E وإن جعلت اسم الإشارة عائدا إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور, أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلا, ابتداء من قوله ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى ) إلى هنا على كلام التأويلين المتقدمين, فتكون الإشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلا لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه .
و ( النذير ) حقيقته المخبر عن حدوث حدث مضر بالمخبر " بالفتح " , وجمعه : نذر, هذا هو الأشهر فيه . ولذلك جعل ابن جريج وجمع من المفسرين الإشارة إلى محمد A وهو بعيد .
ويطلق النذير على الإنذار وهو خبر المخبر على طريقة المجاز العقلي . قال أبو القاسم الزجاجي : يطلق النذير على الإنذار " يريد أنه اسم مصدر " ومنه قوله تعالى ( فستعلمون كيف نذير ) أي إنذاري وجمعه نذر أيضا, ومنه قوله تعالى ( كذبت ثمود بالنذر ) , أي بالمنذرين . وإطلاق نذير على ما هو كلام وهو القرآن أو بعض آياته مجاز عقلي, أو استعارة على رأي جمهور أهل اللغة وهو حقيقة على رأي الزجاجي .
والمراد بالنذر الأولى : السالفة, أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقول النبي " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " أي من كلام الأنبياء قبل الإسلام .
( أزفت الآزفة [ 57 ] ليس لها من دون الله كاشفة [ 58 ] ) تتنزل هذه الجملة من التي قبلها منزلة البيان للإنذار الذي تضمنه قوله ( هذا نذير ) .
فالمعنى : هذا نذير بآزفة قربت, وفي ذكر فعل القرب فائدة أخرى زائدة على البيان وهي أن المنذر به دنا وقته, فإن : أزفت معناه : قرب وحقيقته القرب المكان, واستعير لقرب الزمان لكثرة ما يعاملون الزمان معاملة المكان .
والتنبيه على قرب المنذر به من كمال الإنذار للبدار بتجنب الوقوع فيما ينذر به .
وجيء لفعل ( أزفت ) بفاعل من مادة الفعل للتهويل على السامع لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تعيين هذه المحادثة التي أزفت, ومعلوم أنها من الأمور المكروهة لورود ذكرها عقب ذكر الإنذار .
وتأنيث ( الآزفة ) بتأويل الوقعة, أو الحادثة كما يقال : نزلت به نازلة, أو وقعت الواقعة, وغشيته غاشية, والعرب يستعملون التأنيث دلالة على المبالغة في النوع, ولعلهم راعوا أن الأنثى مصدر كثرة النوع .
والتعريف في ( الآزفة ) تعريف الجنس, ومنه زيادة تهويل بتمييز هذا الجنس من بين الأجناس لأن في استحضاره زيادة تهويل لأنه حقيق بالتدبر في المخلص منه نظير التعريف في ( الحمد لله ) , وقولهم : أرسلها العراك