والكلام يحتمل آزفة في الدنيا من جنس ما أهلك به عاد وثمود وقوم نوح فهي استئصالهم يوم بدر, ويحتمل آزفة وهي القيامة . وعلى التقديرين فالقرب مراد به التحقق وعدم الانقلاب منها كقوله تعالى ( اقتربت الساعة ) وقوله ( إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) .
وجملة ( ليس لها من دون الله كاشفة ) مستأنفة بيانية أو صفة ل ( الآزفة ) . و ( كاشفة ) يجوز أن يكون مصدر بوزن فاعلة كالعافية, وخائنة الأعين وليس لوقعتها كاذبة . والمعنى ليس لها كشف .
ويجوز أن يكون اسم فاعل قرن بهاء التأنيث للمبالغة مثل راوية, وباقعةو وداهية, أي ليس لها كاشف قوي الكشف فضلا عمن دونه .
والكشف يجوز أن يكون بمعنى التعرية مراد به الإزالة مثل ويكشف الضر, وذلك ضد ما يقال : غشية الضر .
فالمعنى : لا يستطيع أحد إزالة وعيدها غير الله, وقد أخبر بأنها واقعة بقوله ( ليس لها من دون الله كاشفة ) كناية عن تحقيق وقوعها .
ويجوز أن يكون الكشف بمعنى إزالة الخفاء, أي لا يبين وقت الآزفة أحد له قدرة على البيان على نحو قوله تعالى ( لا يجليها لوقتها إلا هو ) . فالمعنى : أن الله هو العالم بوقتها لا يعلمه أحد إلا إذا شاء أن يطلع عليه أحدا من رسله أو ملائكته .
و ( من دون الله ) أي غير الله, و ( من ) مزيدة للتوكيد, وهو متعلق بالكون الذي ينوى في خبر ليس في قوله ( لها ) .
( أفمن هذا الحديث تعجبون [ 59 ] وتضحكون ولا تبكون [ 60 ] وأنتم سامدون [ 61 ] ) تفريع على ( هذا نذير من النذر الأولى ) وما عطف عليه وبين به من بيان أو صفة, فرع عليه استفهام إنكار وتوبيخ .
والحديث : الكلام والخبر .
والإشارة إلى ما ذكر من الإنذار بأخبار الذين كذبوا الرسل, فالمراد بالحديث بعض القرآن بما في قوله ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) .
A E ومعنى العجب هنا الاستبعاد والإحالة كقوله ( أتعجبين من أمر الله ) , أو كناية عن الإنكار .
والضحك : ضحك الاستهزاء .
والبكاء مستعمل في لازمه من خشية الله كقوله تعالى ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) .
ومن هذا المعنى قول النبي A للمسلمين حيث حلوا بحجر ثمود في غزوة تبوك " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم " , أي ضارعين لله أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم أو خاشعين أن يصيبكم مثل ما أصابهم .
والمعنى : ولا تخشون سوء عذاب الإشراك فتقلعوا عنه .
وسامدون : من السمود وهو ما في المرء من الإعجاب بالنفس, يقال : سمد البعير, إذا رفع رأسه في سيره, مثل به حال المتكبر المعرض عن النصح المعجب بما هو فيه بحال البعير في نشاطه .
وقيل السمود : الغناء بلغة حمير, والمعنى : فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة الاكتراث بما تسمعون من القرآن كقوله ( وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) على أحد تفسيرين .
وتقديم المجرور للقصر, أي هذا الحديث ليس أهلا لأن تقابلوه بالضحك والاستهزاء والتكذيب ولا لأن لا يتوب سامعه, أي لو قابلتم بفعلكم كلاما غيره لكان لكم شبهة في فعلكم, فأما مقابلتكم هذا الحديث بما فعلتم فلا عذر لكم فيها .
( فاسجدوا لله واعبدوا [ 62 ] ) تفريع على الإنكار والتوبيخ المفرعين على الإنذار بالوعيد, فرع عليه أمرهم بالسجود لله لأن ذلك التوبيخ من شأنه أن يعمق في قلوبهم فيكفهم عما هم فيه من البطر والاستخفاف بالداعي إلى الله . ومقتضى تناسق الضمائر أن الخطاب في قوله ( فاسجدوا لله واعبدوا ) موجه إلى المشركين .
والسجود يجوز أن يراد به الخشية كقوله تعالى ( والنجم والشجر يسجدان ) . والمعنى : أمرهم بالخضوع إلى الله والكف عن تكذيب رسوله وعن إعراضهم عن القرآن لأن ذلك كله استخفاف بحق الله وكان عليهم لما دعوا إلى الله أن يتدبروا وينظروا في دلائل صدق الرسول والقرآن .
ويجوز أن يكون المراد سجود الصلاة والأمر به كناية عن المر بأن يسلموا فإن الصلاة شعار الإسلام, ألا ترى إلى قوله تعالى ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ) , أي من الذين شأنهم الصلاة . وقد جاء نظيره الأمر بالركوع في قوله تعالى ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) في سورة المرسلات فيجوز فيه المحملان