وتخصيص الشعرى بالذكر في هاته السورة أنه تقدم ذكر اللات والعزى ومناة وهي معبودات وهمية لا مسميات لها كما قال تعالى ( إن هي إلا أسماء سميتموها ) وأعقبها بإبطال إلهية الملائكة وهي من الموجودات المجردات الخفية, أعقب ذلك بإبطال عبادة الكواكب وخزاعة أجوار لأهل مكة فلما عبدوا الشعرى ظهرت عبادة الكواكب في الحجاز, وإثبات أنها مخلوقة لله تعالى دليل على إبطال إلهيتها لأن المخلوق لا يكون إلها, وذلك مثل قوله تعالى ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ) مع ما في لفظ الشعرى من مناسبة فواصل هذه السورة .
والإتيان بضمير الفصل يفيد قصر مربوبية الشعرى على الله تعالى وذلك كناية عن كونه رب ما يعتقدون أنه من تصرفات الشعرى, أي هو رب تلك الآثار ومقدرها وليست الشعرى ربة تلك الآثار المسندة إليها في مزاعمهم, وليس لقصر كون رب الشعرى على الله تعالى دون غيره لأنهم لم يعتقدوا أن للشعرى ربا غير الله ضرورة أن منهم من يزعم أن الشعرى ربة معبودة ومنهم من يعتقد أنها تتصرف بقطع النظر عن صفتها .
( وأنه أهلك عادا الأولى [ 50 ] وثمود فما أبقى [ 51 ] وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى [ 52 ] ) A E لما استوفي ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبي A وطعنهم في القرآن, ومن عبادة الأصنام, وقولهم في الملائكة, وفاسد معتقدهم في أمور الآخرة, وفي المتصرف في الدنيا, وكان معظم شأنهم في هذه الضلالات شبيها بشأن أمم الشرك البائدة نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم : عاد, وثمود, وقوم نوح, وقوم لوط .
فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التي قبلها في احتمال كونها زائدة على ما في صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح, وكان معاصرا للمؤتفكة عالما بهلاكها .
ولكون هلاك هؤلاء معلوما لم تقرن الجملة بضمير الفصل .
ووصف عاد ب ( الأولى ) على اعتبار عاد اسما للقبيلة كما هو ظاهر . ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكروا وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح .
وأما القول بأن عادا هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى ترف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت في زمن العماليق فليس بصحيح .
ويجوز أن يكون ( الأولى ) وصفا كاشفا, أي عادا السابقة . وقيل ( الأولى ) صفة عظمة, أي الأولى في مراتب الأمم قوة وسعة, وتقدم التعريف بعاد في سورة الأعراف .
وتقدم ذكر ثمود في سورة الأعراف أيضا .
وتقدم ذكر نوح وقومه في سورة آل عمران وفي سورة الأعراف .
وإنما قدم في الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عادا وثمودا أشهر في العرب وأكثر ذكرا بينهم وديارهم في بلاد العرب .
وقرأ الجمهور ( عادا الأولى ) بإظهار تنوين ( عادا ) وتحقيق همزة ( الأولى ) . وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو ( عاد لولى ) بحذف همزة ( الأولى ) بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة وإدغام نون التنوين من ( عادا ) في لام ( لولى ) . وقرأه قالون عن نافع بإسكان همزة ( الأولى ) بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة ( عاد لولى ) على لغة من يبدل الواو الناشئة عن إشباع الضمة همزا, كما قرئ ( فاستوى على سؤقه ) .
وقرأ الجمهور ( وثمودا ) بالتنوين على إطلاق اسم جد القبيلة عليها . وقرأه عاصم وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة .
وجملة ( إنهم هم كانوا أظلم وأطغى ) تعليل لجملة ( أهلك عادا ) إلى آخرها, وضمير الجمع في ( إنهم كانوا ) يجوز أن يعود إلى قوم نوح, أي كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود . ويجوز أن يكون عائد إلى عاد وثمود وقوم نوح والمعنى : أنهم أظلم وأطغى من قومك الذين كذبوك فتكون تسلية للنبي A بأن الرسل من قبله لقوا من أممهم أشد مما لقيه محمد A , وفيه إيماء إلى أن الله مبق على أمة محمد A فلا يهلكها لأنه قدر دخول بقيتها في الإسلام ثم أبنائها .
وضمير الفصل في قوله ( كانوا هم أظلم ) لتقوية الخبر .
( والمؤتفكة أهوى [ 53 ] فغشاها ما غشى [ 54 ] )