و ( ذلكم ) إشارة إلى ( مأواكم ) والباء للسببية أي ذلكم المأوى بسبب اتخاذكم آيات الله وهي آيات القرآن هزؤا أي مستهزأ بها ( هزؤا ) مصدر مراد به اسم المفعول مثل خلق .
وتغرير الحياة الدنيا إياهم سبب أيضا لجعل النار مأواهم .
والتغرير : الإطماع الباطل . ومعنى تغرير الحياة الدنيا إياهم : أنهم قاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا فظنوا أن الله لا يحيي الموتى وتطرقوا من ذلك إلى إنكار الجزاء في الآخرة على ما يعمل في الدنيا وغرهم أيضا ما كانوا عليه من العزة والمنعة فخالوه منتهى الكمال فلم يصيخوا إلى داعي الرشد وعظة النصح وأعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن المرشد ولولا ذلك لأقبلوا على التأمل فيما دعوا إليه فاهتدوا فسلموا من عواقب الكفر ولكون هذه المغررات حاصلة في الحياة الدنيا أسند التغرير إلى الحياة على سبيل المجاز العقلي لأن ذلك أجمع لأسباب الغرور .
A E وفرع على ذلك ( فاليوم لا يخرجون منها ) بالفاء وهذا من تمام الكلام الذي قيل لهم لأن وقوع كلمة ( اليوم ) في أثنائه يعين أنه من القيل الذي يقال لهم يومئذ . واتفق القراء على قراءة ( لا يخرجون ) بياء الغيبة . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : لا تخرجون بأسلوب الخطاب مثل سابقه ولكن عدل عن طريقة الخطاب إلى الغيبة على وجه الالتفات . ويحسنه هنا أنه تخييل للإعراض عنهم بعد توبيخهم وتأييسهم وصرف بقية الإخبار عنهم إلى مخاطب آخر ينبأ ببقية أمرهم تحقيرا لهم .
وقرأ الجمهور ( يخرجون ) بضم الياء وفتح الراء فالمعنى : أنهم يسألون من يخرجهم فلا يخرجهم أحد كما في قوله تعالى ( ربنا أخرجنا منها ) وقوله ( فهل إلى خروج من سبيل ) . وقرأه حمزة والكسائي ( يخرجون ) بفتح الياء وضم الراء . فالمعنى : أنهم يفزعون إلى الخروج فلا يستطيعون لقوله تعالى ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) .
والاستعتاب بمعنى : الإعتاب فالسين والتاء للمبالغة كما يقال : أجاب واستجاب . ومعنى الإعتاب : إعطاء العتبى وهي الرضا . وهو هنا مبني للمجهول . أي لا يستعتبهم أحد أي ولا يرضون بما يسألون وتقدم نظيره في قوله تعالى ( فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ) في سورة الروم .
وتقديم ( هم ) على ( يستعتبون ) وهو مسند فعلي بعد حرف النفي هنا تعريض بأن الله يعتب غيرهم أي يرضي المؤمنين أي يغفر لهم .
( فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين [ 36 ] وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 37 ] ) الفاء لتفريع التحميد والثناء على الله تفريعا على ما احتوت عليه السورة من ألطاف الله فيما خلق وأرشد وسخر وأقام من نظم العدالة والإنعام على المسلمين في الدنيا والآخرة ومن وعيد للمعرضين واحتجاج عليهم فلما كان ذلك كله من الله كان دالا على اتصافه بصفات العظمة والجلال وعلى إفضاله على الناس بدين الإسلام كان حقيقا بإنشاء قصر الحمد عليه فيجوز أن يكون هذا الكلام مرادا منه ظاهر الإخبار ويجوز أن يكون مع ذلك مستعملا في معناه الكنائي وهو أمر الناس بأن يقصروا الحمد عليه . ويجوز أن يكون إنشاء حمد لله تعالى وثناء عليه . وكل ما سبقه من آيات هذه السورة مقتض للوجوه الثلاثة ونظيره قوله تعالى ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) في سورة الأنعام .
وتقديم ( لله ) لإفادة الاختصاص أي الحمد مختص به الله تعالى يعني الحمد الحق الكامل مختص به تعالى كما تقدم في سورة الفاتحة .
وإجراء وصف ( رب السماوات ) على اسمه تعالى إيماء إلى علة قصر الحمد على الله إخبارا وإنشاءا تأكيدا لما اقتضته الفاء في قوله ( فلله الحمد ) . وعطف ( ورب الأرض ) بتكرير لفظ ( رب ) للتنويه بشأن الربوبية لأن رب السماوات والأرض يحق حمده على أهل السماء والأرض فأما أهل السماء فقد حمدوه كما أخبر الله عنهم بقوله ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ) . وأما أهل الأرض فمن حمده منهم فقد أدى حق الربوبية ومن حمد غيره وأعرض عنه فقد سجل على نفسه سمة الإباق وكان بمأوى النار محل استحقاق .
ثم أتبع بوصف ( رب العالمين ) وهم سكان السماوات والأرض تأكيدا لكونهم محقوقين بأن يحمدوه لأنه خالق العوالم التي هم منتفعون بها وخالق ذواتهم فيها كذلك