ثم إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة وهو تمايز متقارب وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن : أذاك صحيح أم لا ؟ فأجاب : أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب وأصح في النقل وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا " أي بالأندلس " فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع وقد تؤول ذلك فيما روى عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة .
وفي كتاب الصلاة الأول من العتبية : سئل مالك عن النبر في القرآن فقال : إني لأكرهه وما يعجبني ذلك قال ابن رشد في البيان يعنى بالنبر ههنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش لما جاء من أن رسول الله A لم تكن لغته الهمز " أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها مثل ياجوج وماجوج بالألف دون الهمز ومثل الذيب في الذئب ومثل مومن في مؤمن .
ثم قال : ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع في الصلاة إلا برواية ورش وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب اه وهذا خلف بن هشام البزار راوي حمزة قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين ومنهم شيخة حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من قراءات الكوفيين ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة قوله تعالى ( وحرام على قرية ) قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور .
فإن قلت هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز ؟ قلت : حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال وهو لا يقبل التفاوت ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة أو تتعلق بزيادة الفصاحة أو بالتفنن مثل ( أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير ) .
على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي A للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم فتروي تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز .
وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا .
" تنبيه " أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام .
وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة .
والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى وما يتبعه من البلاد . والسودان